المعني من تحريم الخلوة بين الرجل والمرأة بغير علاقة زوجية. ولا توجد بينهما علاقة محرمية كالبنوة أو الأخوة أو العمومة. هو خشية المفسدة الأخلاقية غالباً. وهذا المعني غير موجود في المسنين وخاصة الطاعنين منهم. فهل يعني ذلك رفع الحكم بالتحريم عنهم. فتجوز الخلوة معهم. كما تجوز الخلوة بينهم؟ لقد اختلف الفقهاء في ذلك علي مذهبين: المذهب الأول: يري ان كبر السن ليس عذراً مبيحاً للخلوة المنهي عنها. وإلي هذا ذهب الحنفية وأحد القولين عند المالكية وبه قال الشافعية والحنابلة. وحجتهم: أن النهي عن الخلوة جاء عاماً. ويستوي فيه الشاب والشيخ والعجوز. ولأن الطبع البشري بالعبث في العورات لا يختلف بالسن. المذهب الثاني: يري ان كبر السن عذر مبيح للخلوة. وإليه ذهب المالكية في القول الثاني عندهم. واختاره ابن حجر العسقلاني. وحجتهم: ان الطبع يستنكف العبث بالأعراض بين كبار السن أو معهم غالباً. بدليل ما شرعه الله تعالي للقواعد من النساء بوضع الثياب غير متبرجات بزينة. ولما كان الحكم للغالب لم يكن لتحريم الخلوة بين المسنين معني. كما يدل لهذا القول: ما أخرجه الشيخان من حديث أنس بن مالك. قال: جاءت امرأة من الأنصار إلي النبي. صلي الله عليه وسلم. فخلا بها. فقال: "والله إنكم - أي يا أهل الأنصار - لأحب الناس إلي". والمتبادر إلي الذهن هو أن هذه المرأة الأنصارية كانت كبيرة السن. لأن النبي. صلي الله عليه وسلم. كان يدرأ الشبهة عن نفسه أمام أصحابه. فقد أخرج مسلم من حديث أنس. أن النبي. صلي الله عليه وسلم. كان مع إحدي نسائه. فمر به رجل فدعاه. فقال: "يا فلان هذه زوجتي فلانة". فقال الرجل: يا رسول الله. من كنت أظن به فلم أكن أظن بك. فقال رسول الله. صلي الله عليه وسلم: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجري الدم". وقد يقال: إن المقصود بالخلوة مع المرأة الانصارية: البعد عن الحاضرين بحيث لا تحتجب أشخاصهما عن الناس. حتي لا يسمع سؤالها أحد حماية لحيائها. والجواب: ان الحديث صريح بالخلوة. وتأويله بالاحتجاب بالصوت لا بالرؤية صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل. ويدل أيضاً لمشروعية الخلوة بالمرأة العجوز بغرض الشفقة. عند أمن الفتنة ما أخرجه الشيخان من حديث أنس بن مالك. قال: كان النبي. صلي الله عليه وسلم. لا يدخل علي أحد من النساء إلا علي أزواجه إلا أم سليم - وهي بنت ملحان - فإنه كان يدخل عليها - وهي كبيرة السن. فهي والدة أنس بن مالك. فقيل له في ذلك. فقال: "إني أرحمها قتل أخوها معي".كما كان يدخل علي أم حرام بنت ملحان وهي خالة أنس بن مالك. وهي أكبر من أمه - فكانت أم حرام تطعم النبي. صلي الله عليه وسلم. وتفلي رأسه.يقول ابن حجر: ولم يكن بين النبي. صلي الله عليه وسلم. وبين أم حرام محرمية ولا زوجية. وذلك لأمن الفتنة علي المعتمد. وتأكيداً لهذا المعني فقد نقل ابن حجر عن الدمياطي قوله: كان أنس بن مالك خادم النبي. صلي الله عليه وسلم. وقد جرت العادة بمخالطة المخدوم خادمه وأهل خادمه. ورفع الحشمة التي تقع بين الأجانب عنهم. يقول ابن حجر: وقد أشكل هذا علي جماعة - مع صحة الأحاديث في ذلك - فقال ابن عبدالبر: أظن أن أم حرام أرضعت رسول الله. صلي الله عليه وسلم. أو أختها أم سليم. فصارت كل منهما أمه أو خالته من الرضاعة. من أجل انه كان يدخل عليها. وكانت تطعمه وتفلي رأسه. وقيل: ان هذا كان قبل نزول الحجاب. وأجاب ابن حجر عن ذلك: بأن دخول النبي. صلي الله عليه وسلم. علي أم سليم. وعلي أختها أم حرام كان بعد الحجاب جزماً. لأن هذا الدخول كان بعد حجة الوداع. وأما ادعاء وجود محرمية من الرضاع بين النبي. صلي الله عليه وسلم. معلومات ليس فيهن أحد من الأنصار البتة سوي أم عبدالمطلب. وهي سلمي بنت عمرو بن زيد. وأخرج الشيخان عن عبدالله بن عتبه. أنه كتب إلي عمر بن عبدالله بن الأرقم الزهري يأمره ان يدخل علي سبيعة بنت الحارث الأسلمية - وكانت كبيرة السن - فيسألها عن حديثها. وعما قال لها رسول الله. صلي الله عليه وسلم. حين استفتته. وعلي هذا المذهب الذي ذهب إليه المالكية في القول الثاني واختاره ابن حجر العسقلاني يمكن اعتبار كبر السن رخصة شرعية في مشروعية الخلوة بين المسنين وبعضهم في دور الرعاية. أو بين الشيخ الهرم. أو المرأة العجوز. وبين من يخدمهما من المتطوعين من الشباب والشابات. وخاصة من تربطهم صلة الجوار. أو رحم العلم. كما نري وفاء بعض التلاميذ بأساتذتهم الشيوخ والعجائز يدخلون عليهم لقضاء بعض حوائجهم. وإعلامهم بعض أخبار الدنيا. كل هذا في حال انتشار المروءة والفضيلة. وعدم رصد حالات للغدر والفساد. لأن تحريم الخلوة ليس من باب تقييد الحريات. وإنما هو لحفظ الأعراض وتأمين الأنفس والحياة.