كاد أن يموت عند ولادته. بسبب التفاف الحبل السري حول رقبته. وقدر الله له أن يعيش. ليواجه محنته. ويكشف أسرار عبقريته. ويشهد علي تجربته. ويكتب تفاصيل رحلته وفصول روايته ويفتح بقلمه وريشته جدران زنزانته. وصف حاله بكلمات تحرق الأكباد وتدمي القلوب. قال إنه قعيد. لا يستطيع الحركة لا يشغل من فراشه إلا مثل ظله. أو بقدر ما يحتاجه الميت في قبره. كان صبحي الجيار علي امتداد 15 عاما طفلا عاديا وصبيا قويا وطالبا متفوقا يملأ الدنيا حركة ونشاطا وحيوية يعزف علي آلاته الموسيقية ويلعب مع أصدقائه وزملائه في الشارع والمدرسة حتي أصابه هذا المرض الغريب الذي حكم عليه بالسجن مدي الحياة داخل بدنه وبيته وحوله إلي تمثال لا يتحرك منه سوي جفنيه وأصبعين ولسان. كان الرأي النهائي للطب في مصر والخارج انه لا شفاء يرجي من هذا الداء. كان والده عزيز الجيار نجارا بمنطقة مصر القديمة تمني أن يتخرج أولاده في الجامعات وأن يشغلوا أرفع المناصب والدرجات. جاءت الرياح بما لا يشتهي الملاح.. ووقع عليه ما جري لولده وقع الصاعقة التي أفقدته توازنه في بعض الأحوال. فنطق بكلمات جرحت ولده المسكين الذي سجلها في سيرته الذاتية "ربع قرن في القيود" بالجزء الأول الذي يحمل عنوان "المأساة". كان يقول له انه عندما يراه كأنه يري "عزرائيل الموت" وكان الصبي المسكين يسأل وما ذنبي ولا يتلقي جوابا مقنعا. كما شعر بتراخي من حوله في تلبية مطالبه فأصيب أول الأمر بشيء من اليأس والعصبية. لكنه سرعان ما استعاد صوابه واتخذ القرار: قرر أن يتعايش مع هذا المرض العضال ويمضي علي الدرب يصنع قصة نجاح تتعلم منها الأجيال. شعر لبعض الوقت ان لسان حاله يردد قول الشاعر: وظلم ذوي القربي أشد مضاضة علي المرء من وقع الحسام المهند وأصبح يقول: أعلل النفس بالآمال أراقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل قال في البداية لنفسه: انه لا يحمل شهادة تساعده علي العمل. أو معاشا يوفر له الحد الأدني في نفقات الطعام والشراب والكساء والدواء. لكنه مضي علي الدرب يجد ويجتهد ويتعلم وحول بإرادته اليأس إلي بأس والضعف إلي قوة. حطم القيود واجتاز العقبات والسدود وحول سجنه الرهيب إلي واحة مقداد تفيض بالنماء والبناء والأمل والرجاء. وظهرت للجميع جديته وعبقريته وحصل علي منحة تفرغ من وزارة الثقافة بعد سنوات من العمل نهاية مسيرته الذاتية التي حصل بها علي جائزة الدولة التشجيعية. وسافر للعلاج في لندن علي نفقة الدولة وقال الأطباء نفس الكلام لا أمل يرجي في الشفاء. عاد أكثر اصرارا علي النجاح وتحول صبحي الجيار إلي أسطورة للأجيال يفخر به المصريون علي مر الأجيال. تحول منزله 11 شارع فم الخليج بمصر القديمة إلي قلعة للعلم والأدب والفن والإبداع. وبعد صبحي الجيار لا مكان لليائسين والقانطين والشاكين والباكين.