لعل طرد سفير ميانمار من مصر هو أقل اجراء يمكن ان نتخذه للتعبير عن رفضنا للجرائم الوحشية التي يتعرض لها مسلمو الروهينجا علي أيدي البوذيين في دولة ميانمار. التي كانت تحمل اسم بورما حتي عام 1989. الجرائم الوحشية تشمل قائمة طولية من أعمال القتل والذبح.. تبدأ من اغتصاب نساء المسلمين وقتلهن. وتنتهي بإلقاء الأطفال أحياء في الأفران أو براميل الزيت المغلي. مروراً بهدم البيوت والمساجد واحراق قري المسلمين وتسويتها بالأرض.. والكلام من تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش المعنية بحقوق الإنسان. موثق بصور تم التقاطها بواسطة الأقمار الصناعية. أظهرت دماراً شبه تام للمناطق التي يقطنها المسلمون في ولاية "راخين".. وذكر التقرير بالحرف الواحد ان "أكثر من 811 من المباني ومنازل القوارب قد تمت تسويتها بالأرض في منطقة كياوكبيو يوم 24 أكتوبر الجاري"..!! هذه الجرائم هي دورة جديدة في تاريخ طويل من عمليات التطهير العرقي التي يتعرض لها المسلمون في ميانمار.. بدأت هذه المرة في يونيو الماضي. عندما اتهمت الشرطة البورمية ثلاثة من المسلمين باغتصاب وقتل امرأة بوذية يوم 28 مايو 2012.. فقام حشد غاضب من البوذيين يوم 3 يونيو باعتراض حافلة تقل مجموعة من المسلمين. وقتلوا منهم عشرة. ظناً أن الثلاثة الذين اغتصبوا المرأة البوذية بين ركاب الحافلة.. ثم بدأوا في الهجوم علي منازل المسلمين واشعال النار فيها.. ورغم ان حكومة ميانمار قامت باعدام اثنين من المتهمين الثلاثة باغتصاب المرأة البوذية.. إلا أن ذلك لم يوقف الاعتداءات الوحشية علي قري ومساكن المسلمين في ميانمار. التي مازالت تجري بتشجيع من سلطات الدولة والرهبان البوذيين..! *** جذور هذه المشكلة تعود الي نشأة دولة بورما نفسها. التي كانت في السابق احدي ولايات الهند الواقعة تحت الاحتلال البريطاني. ثم انفصلت عن الهند في الأول من أبريل عام 1937 نتيجة لاقتراع بشأن بقائها تحت سيطرة مستعمرة الهند البريطانية أو استقلالها لتكون مستعمرة بريطانية منفصلة.. عند ترسيم حدود الدولة الجديدة قام البريطانيون بضم ولاية "أراكان" التي تقطنها أغلبية مسلمة الي دولة بورما الوليدة.. هؤلاء المسلمون يطلق عليهم اسم "مسلمي الروهينجا" نسبة الي الاسم القديم للولاية.. والبعض يقول ان كلمة "الروهينجا" مشتقة من كلمة "الرحمة".. ضمن كلمات كثيرة دخلت الي اللغات المنتشرة في هذه المناطق. مع التجار العرب الذين نقلوا الإسلام الي الولايات الهندية القديمة في القرن الثامن الميلادي. المهم أن الأغلبية البوذية من سكان بورما لم تقبل بوجود المسلمين بين دولتهم.. فبدأوا في شن الهجمات عليهم لاجبارهم علي الفرار خارج البلاد.. وفي إطار سياسة "فرق تسد" التي كان يتبعها الاستعمار البريطاني في ادارة مستعمراته. قام البريطانيون بتزويد البوذيين بالأسلحة اللازمة لمحاربة المسلمين.. فقتلوا منهم 100 ألف مسلم في مذبحة عام 1942 الشهيرة..!! الذين نجوا من هذه المذبحة عاشوا مضطهدين ومعزولين في الدولة التي استقلت بعد ذلك عن الاحتلال البريطاني عام 1948.. ثم بدأت في تشريع القوانين الخاصة بها. فلم تعط مسلمي الروهينجا حقوقاً من أي نوع.. هكذا لم يجدوا أمامهم فرصاً للعيش سوي بالعمل في الزراعة والرعي. أما الأقلية منهم الذين سمح لهم بتولي الوظائف. فتم اجبارهم علي التخلي عن اسمائهم الإسلامية..! هذا الوضع تم تقنينه عام 1982 بصدور "قانون الجنسية" الذي اعتبر مسلمي الروهينجا "مواطنون من الدرجة الثالثة".. وتعامل معهم علي أنهم غرباء دخلوا البلاد بطريقة غير شرعية. هرباً من الأوضاع المزرية في إقليم البنغال "الذي أصبح دولة بنجلاديش منذ عام 1972"..! *** يبلغ تعداد مسلمي الروهينجا الذين يعيشون في ميانمار حالياً مليون نسمة. يشكلون نسبة 4% فقط من تعداد السكان.. السبب في انخفاض هذه النسبة. هو نجاح السلطات البورمية علي مدي السنوات الماضية. في إجبار الآلاف منهم علي الفرار الي بنجلاديش.. فطبقاً لاحصائيات وكالة غوث اللائجين التابعة للأمم المتحدة. قامت السلطات البورمية عام 1978 بطرد نصف مليون مسلم الي بنجلاديش. مات منهم 40 ألفاً بسبب الظروف القاسية التي فرضت عليهم. وفي عام 1988 طردت 150 ألفاً آخرين. وفي عام 1990 طردت 300 ألف. ليس هذا فقط.. بل انها فرضت عليهم عدم الزواج قبل سن الثلاثين لتقليل الانجاب.. كما فرضت عليهم في عقد التسعينيات من القرن الماضي عدم الزواج لمدة 3 سنوات عندما لاحظت ان أعدادهم في ازدياد..! *** الجرائم الوحشية التي يتعرض لها مسلمو الروهينجا في ميانمار من قتل وتعذيب وحرق ممتلكات وتطهير عرقي. وصلت الي درجة ان الأممالمتحدة وصفتهم بأنهم أكثر أقلية مضطهدة في العالم..! ففي الداخل تتحالف ضدهم سلطات الدولة مع الرهبان البوذيين. الذين يشاركون في الحصار المفروض حول قري المسلمين لاجبارهم علي تركها أو الموت حرقاً في الأفران التي نصبوها لهم.. وطبقاً لما جاء في صحيفة "الاندبندنت" البريطانية يوم 25 يوليو 2012. فإن الرهبان البوذيين في بورما اصدروا كتيبات تدعو الي نبذ مسلمي الروهينجا وتصفهم بأنهم "وحشيون بطبيعتهم".. وقالت الصحيفة علي لسان كريس ليوا المسئول عن منظمة غير حكومية تتابع الوضع في المنطقة "انه تم نشر بعض الرهبان قرب مخيمات النازحين المسلمين. لتفتيش الزائرين الداخلين الي المخيمات الذين يشتبه في حملهم مساعدات إنسانية للنازحين"..!! وفي الخارج تتحالف ضدهم الصين مع السلطات البورمية. مقابل حصول الصين من بورما علي تسهيلات عسكرية في موانئها المطلة علي خليج البنغال والمحيط الهندي. فضلاً عن مصلحة الصين في تعزيز علاقتها الثنائية مع بورما. حتي لا تتحول بورما الي عمق استراتيجي للحركة الانفصالية في إقليم التبت التي يعتنق أعضاؤها العقيدة البوذية.. نفس عقيدة سكان بورما. كما تتحالف الهند أيضاً مع السلطات البورمية ضد مسلمي الروهينجا.. لأن هناك 7 أقاليم هندية مجاورة لبورما ترتبط جغرافياً مع الهند بشريط ضيق شمال بنجلاديش. وقد ظهرت بها بعض الحركات الانفصالية.. لذلك فالهند تريد تأمين هذا الجانب من أراضيها. بنجلاديش أيضا أصبحت جزءا من الأزمة. فرغم انها دولة إسلامية.. إلا أنها من أفقر دول العالم. ويعيش بها 160 مليون نسمة. ومساحة أراضيها ضيقة. والفيضانات لا ترحمها.. بالتالي هي غير قادرة علي استيعاب المزيد من مسلمي الروهينجا الفارين اليها عبر الجبال أو المراكب الصغيرة في نهر "ناف" الفاصل بينها وبين بورما.. لذلك تقوم بتجميعهم في المخيمات الإغاثية وإعادتهم في مراكب الي بورما.. ولأن بورما ترفض استقبال العائدين إليها.. وبنجلاديش ترفض استقبال الفارين اليها.. فإن الآلاف من مسلمي الروهينجا مازالوا عالقين حتي الآن في مراكب صغيرة طافية علي مياه نهر "ناف" بلا طعام ولا مأوي ولا سقف يحميهم من الأمطار والثلوج.. حتي المساعدات الإنسانية ممنوعة من الوصول إليهم.. لا خيار أمامهم سوي الموت جوعاً أو غرقاً في النهر..!! وصل الأمر بحكومة بنجلاديش ان طلبت من المنظمات الخيرية الكف عن تقديم المساعدات الي الفارين اليها من مسلمي الروهينجا. حتي لا يأتي اليها المزيد.. المنظمات التي طلبت منها ذلك هي: أطباء بلا حدود- والعمل ضد الجوع- ومسلم أيد.. فشعرت فرنسا بالغضب من ذلك وأعربت عن أسفها.. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية فنسان فلورياني يوم 3/8/2012 " ان فرنسا تدعو بنجلاديش الي ان تمتنع عن طرد الأشخاص الذين تكون حياتهم معرضة للخطر الي ان يهدأ الوضع بشكل دائم في ولاية أراكان في بورما"..! خوف مسلمي الروهينجا الفارين الي بنجلايش من إعادتهم إلي بورما اذا ما لجأوا الي مخيمات النازحين.. أو البقاء معلقين في المراكب علي سطح نهر "ناف" دفعهم الي اللجوء الي أعالي الجبال. حيث بدأ الصقيع في النزول. *** هذه بعض مظاهر المأساة التي يعيشها الآن مسلمو الروهينجا.. ومازال للحديث بقية في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالي.