"هناك سمة غالبة اليوم علي الصحافة وأكاديميات العلوم السياسية تقول بأن الولاياتالمتحدة كقوة عظمي في طور السقوط وأنها تتجه نحو التحلل.. السيدات والسادة، إن الإنهيار حقيقي وله علامات لكن هذا ليس جديداً، فقد بدأ تراجع أمريكا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة فخلالها بلغت أوج قوتها وبعدها بدأ الإنهيار، إن النظام الإقتصادي الحالي فاسد ويتآكل من داخله، إن هذا النظام المتآكل الذي وضعه ويستفيد منه 1% من سكان العالم سيظل فاسداً ومتآكلاً ومنهاراً وغير عادل كما حدث في الأزمة المالية العالمية ما لم يستلهم واضعوه النموذج الذي قدمه ميدان التحرير". هكذا تحدث الفيلسوف والمحلل السياسي الأمريكي نعوم تشومسكي صاحب الإنجاز الأكبر في فلسفة اللغة في النصف الثاني من القرن العشرين، في المحاضرة التي ألقاها أمس الثلاثاء بالجامعة الأمريكية بالتحرير أمام جمهور غير مسبوق لندوة من ذلك النوع، حيث امتدات الطوابير بطول شاعر محمد محمود إلي ميدان التحرير متسببة في ارتباك مروري هائل وزحام المئات للدخول بعد امتلاء قاعة إيوارت الضخمة التي امتلأت كراسيها وطرقاتها وحديقتها الخارجية التي أمدتها الجامعة بجهاز عرض لإستيعاب العدد الهائل من الحضور. يذكر أن تلك هي المحاضرة الثانية له بمصر بعد أول محاضرة ألقاها عام 1993 بالجامعة الأمريكية أيضاً. جاء صوت الفيلسوف الثمانيني الذي آمن بأن قدرة الإبداع اللغوي لدي الإنسان غير محدودة واهناً، لكنه عكس ذهناً متقداً للرجل الذي ألقي المحاضرة واقفاً علي قدميه قرابة الساعة، فرغم أن تشومسكي لم يأت بأفكار جديدة في محاضرته تلك، إلا أنه دعم أفكاره دائماً بأبحاث ودراسات حديثة وبآراء سياسية ثاقبة لم تخل من روح الدعابة ونظرة تاريخية للنظام العالمي ونشوء الإمبراطورية الأمريكية والهيمنة الغربية التي انتقلت إلي سيطرة الشركات المتعددة الجنسيات علي الحكومات المنتخبة إيذاناً بموت الديمقراطية. أول العلامات علي انهيار الإمبراطورية الأمريكية انتقال جزء من القوة العالمية للصين والهند، خاصة بعد استقلال الصين عام 1949 وهو ما اعتبر ساعتها بمثابة ضياع للصين من الولاياتالمتحدة وهو ما علق عليه تشومسكي ساخراً "لا يمكنك أن تفقد شيء لا تملكه، لا يمكنني أن أفقد حواسبكم يمكن فقط أن أفقد حاسبي أنا". ومن ضمن تلك العلامات تعددية المراكز الصناعية مع بزوغ ألمانيا ثم اليابان، وفي ذلك الوقت كانت الولاياتالمتحدة تملك ثلاثة أرباع السوق العالمي وهو ما تقلص بعد ذاك. وقال تشومسكي في المحاضرة التي تناولت الربيع العربية وتأثيراته علي النظام العالمي إن الولاياتالمتحدة لا تريد أن تري سياسات في الشرق الأوسط تعكس الرأي العام وتعبر عنه، فبالنسبة للولايات المتحدة الديمقراطيات يجب أن تتوقف، وقد ظهر ذلك جلياً في دعمها لبن علي ومبارك في أيام الثورة الأولي وقبل ذلك حين فازت حماس في انتخابات ديمقراطية ونزيهة في قطاع غزة. وقال تشومسكي إن سياسات الولاياتالمتحدة لم تكن لتتغير إذ لم تكن تحتاج نفط الشرق الأوسط، فهي تسعي نحو الهيمنة علي الشرق الأوسط، ليس للحصول علي النفط فحسب، فمواردها المحلية تكفيها، لكن الهدف هو الحصول علي مزيد من السيطرة والهيمنة علي النظام العالمي وقواعد اللعبة فيه. وقال إن الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي المنهار كان صراعاً علي الهيمنة علي العالم، فبعد انهيار الإتحاد السوفيتي أخذ النفوذ الأمريكي يتسع سرقاً مع تمدد حلف الناتو الذي نشأ لمواجهة الاتحاد السوفيتي أساساً في ألمانياالشرقية. ومع سقوط الاتحاد السوفيتي تحولت وجهة الناتو إلي حماية نظام نقل الطاقة ومواردها عبر العالم، وأصبح الآن قوة تدخل عالمية كبري، تتدخل في أحيان كثيرة باسم الأسباب الإنسانية لكنها ليست سوي وجه آخر للإستعمارية القديمة. وانتقد تشومسكي النظام المالي العالي، مشيراً إلي النفوذ الواسع الذي تملكه الشركات المتعددة الجنسيات علي حكومات العالم وتدخلها في إدارة الملفات الحساسة والقضايا الكبري والسياسة الخارجية للدول، وقال إن تلك الشركات تتحكم حتي في سياسات الإحتياطي الفيدرالي الأمريكي لصالحها. وأضاف: "تقود الولاياتالمتحدة التي تتحكم فيها الشركات الكبري والمتعددة الجنسيات نظاماً اقتصادياً يقسم العالم إلي قسمين الأول الأغنياء جداً وقسم آخر به أي أحد آخر بخلافهم، وتلك القسمة هي النقلة الأكبر في التاريخ المالي الحديث مع التحولات التي حدثت نحو سياسات الليبرالية الجديدة في عهدي ريجان بأمريكا وتاتشر ببريطانيا." ويري تشومسكي أن وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" هي أحد وسائل استغلال المال العام لدعم الشركات الكبري، وكشف عن أن جزءاً ضخماً من ميزانية معهد ماستشوسيتس للتكنولوجيا والذي يدرس فيه هو يأتي من البنتاجون. وعلق تشومسكي علي ذلك متهكماً قائلاً: لا أعتقد أن جامعتي تقوم بأي عمل عسكري إلا إذا كانت البنتاجون تعتبر العلوم السياسية كذلك.