لولا الحب والنهر لأصابنا الجفاف... لأصبحنا مثل الأرض الميتة التي يمنحها الله عز وجل الحياة بهطول المطر فتخرج ما بداخلها من خير للناس. فقد قيل ليحيى بن معاذ الرازي : إن ابنك يعشق فلانة ، فقال : قد عف ولطف. إنه الحب... تلك اللغة التي فطر الله عليها قلوب العالمين، فالحب لا يعرف عرقا ولا لونا ولا جنسية. إنه يجعلك ترى العالم وكأنك تراه لأول مرة، فتعشق البحر وضوء القمر،وتصير كل الفصول ربيعاً، وتصبح كل نساء العالم امرأة واحدة تبحر في عينيها حتى الأعماق. أيُّها الحُبُّ أنْتَ سِرُّ بَلاَئِي وَهُمُومِي، وَرَوْعَتِي، وَعَنَائي وَنُحُولِي، وَأَدْمُعِي، وَعَذَابي وَسُقَامي، وَلَوْعَتِي، وَشَقائي أيها الحب أنت سرُّ وُجودي وحياتي ، وعِزَّتي، وإبائي "1" لأن الحب كما يقول ابن حزم عنه في "طوق الحمامة" أجل من أن تصف معانيه، فهو لا يدرك إلا المعاناة" فلا أجد تعريفاً له إلا قول الشاعر: فما في الأرض أشقى من محب وإن وجد الهوى حلو المذاق تراه باكيا في كل حين مخافة فرقة أو لاشتياق فتسخن عينه عند التلاقي وتسخن عينه عند الفراق ويبكي إن نأوا شوقا إليهم ويبكي إن دنوا حذر الفراق "2" ويقول ابن القيم: ويكفى أن يكون الأعرابي الذي لا يذكر مع الملوك، ولا مع الشجعان الأبطال، يعشق ويشتهر بالعشق، فيذكر في مجالس الملوك والخلفاء ومن دونهم، وتدون أخباره وتروى أشعاره، و يبقى له العشق ذكرا مخلدا، ولولا العشق لم يذكر له اسم، ولم يرفع له رأس. إنه من جعل عنترة بن شداد ينسج من أصعب الظروف الإنسانية شدةً وهى الحرب حالة من العشق والهيام تفيض بالرقة والعذوبة بشكل لا يجعلك تصدق أن صائغ هذه الكلمات كان يعيش في العصر الجاهلي. ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم. والآن تضاءلت قيمة الحب أمام رغيف الخبز، وسقط تحت عجلات السيارات الفارهة، وأصبحنا نخافه لأنه يملكنا ويأسرنا بينما نحن لا نملكه، رغم أنه يكبل ذلك الحيوان الذي يعيش داخلنا لنصبح أكثر إنسانية، لقد ضاع مثل كل القيم النبيلة في هذا الزمان الذي تموت فيها كل الأشياء الجميلة، فالناس صارت كما يقول أمل دنقل : الناس هنا- في المدن الكبرى- ساعات لا تتخلف لا تتوقف لا تتصرف آلات ، آلات، آلات"3" إن رحلة تقدم البشرية التي جعلت العالم عند أطراف أصابعك ليست كلها خيراً، فهي لم ترك شيئاً... حتى المشاعر والأحاسيس عبثت بها، ففي نهاية القرن قبل الماضي قال أمير الشعراء أحمد شوقي واصفاً قصص الحب. نظرة،فابتسامة، فسلام فكلام، فموعد، فلقاء إنه الإيقاع الزمني الطبيعي لنشأة أي علاقة إنسانية تمر بأطوارها الطبيعية لتصل إلى القمة حيث تكون قادرة على الصمود أمام صعاب الحياة والتغلب عليها، ففي هذا الزمان كان كل شئ طبيعياً، حتى استخدام حرف العطف " الفاء" كان رائعاً في الترتيب والتعقب الزمنيين. ومع بداية النصف الثاني من القرن الفائت كتب صلاح عبدالصبور معارضاً زمن أمير الشعراء، ومخلصاً لقصة حب: الحب يا رفيقتى قد كان في أول الزمان يخضع للترتيب والحسبان نظرة،فابتسامة، فسلام فكلام، فموعد، فلقاء واليوم يا عجائب الزمان قد يلتقي فى الحب عاشقان من قبل أن يبتسما ."5" تسارعت خطوات الزمان، فالحب يبدأ وينتهي في نفس اللحظة دون ترتيب أو حسبان، علاقات خاطفة تومض كالبرق.... تنمو بلا جذور تضرب في الأرض الخصبة -القلب- بل تنمو فقط على السطح، لذا ترى الحب يتكسر عند أولى المشاكل الحقيقية. ولا أدرى كيف يمكن أن يصوغ عبد الصبور أبياته ولو كان هنا الآن في عصر الفيس بوك وتوتير.. هوامش 1 - قصيدة أيها الحب - لأبو القاسم الشابى. 2 - إغاثة اللهفان - لا بن القيم. 3- ديوان مقتل القمر- لأمل دنقل. 4- ديوان أحلام الفارس القديم- لصلاح عبدالصبور.