عندما مررت على نظرية عالم النفس الأمريكى ابراهام ماسلو الذى وضع تدرجا منطقيا لتطور احتياجات الإنسان حتى يصل إلى شعوره بذاته وانسانيته .. أدركت لماذا وصلنا إلى هذه الدرجة من التقهقر والتردى وأصبحنا غير قادرين على التقدم خطوة للأمام. فهرم ماسلو الشهير يتكون من 5 مستويات أو احتياجات ينبغى أن يمر بها أى بشر للإرتقاء بنفسه والسمو بروحه .. ويبدأ الهرم من القاع وحتى القمة. والمستوى الأول هو الاحتياجات العضوية أو الفسيولوجية من الطعام والشراب والزواج وغيرها من الأمور الفطرية أو الحيوانية التى تحتاج إلى الإشباع وهى التى تدفع إلى بقاء النوع. والمستوى الثانى هو الإحتياج إلى الأمن والأمان .. الأمان فى بيتك وفى مكان عملك .. الاطمئنان على رزقك وزرقك أولادك..... وأن تنأى بنفسك عن المخاطر .. أما المستوى الثالث فهو الاحتياج الاجتماعى الذى يسعى فيه الإنسان أن يكون جزءا من جماعة واحدة منتمى إليهم فى الأفكار والأهداف والشعارات ويشعر بتبادل الحب معهم. والمستوى الرابع هو الحاجة إلى التقدير .. وأن يشعر باحترام الآخرين له وتقديرهم لعمله وتعبه وكده وهذا المستوى يعطى الدافع لمزيد من التنمية والنجاح .. والمستوى الأخير هو تحقيق الذات والذى يشعر فيه الإنسان بالاستقلالية وتحقيق الطموح والأحلام والاعتماد على النفس كليا.. ولكن كلما نظرت إلى حالنا أو حال القاعدة العريضة من الشعب المصرى أجدهم ما زالوا فى قاع الهرم يكدحون من أجل تحقيق أبسط المطالب فما زلنا لم نبلغ الاحتياجات الأولية بطريقة مشبعة... ولك أن تتخيل ذلك عندما تمر بجولة فى عشوائيات القاهرة لتدرك أن هناك بعض الأسر "تأكل بالتناوب" فإذا تناول أحدهم وجبة الإفطار اليوم لا يكرر التجربة فى الغد حتى يترك الفرصة لغيره من أفراد الأسرة إضافة إلى الرواتب الضعيفة التى حرمت الكثير الإحساس بالشبع وفى اعتقادى مجرد وقوفك أمام أحد اصناف الطعام عاجزا فهذا يدل على فقر فى تلبية احتياجك الإنسانى وقمة الجوع أيضا .. و لا ادرك كيف وصلنا إلى تلك الحالة لتشاهد البعض وهم يشترون ريش الدجاج ليطهوا الحساء عليها ويكتفون بشم الرائحة أحسن ما يبقى "لا الفرخة ولا ريحتها"!!.. ولو تطرقنا بعيدا عن الفقر والجوع سنجد أن هناك ما يقرب من 12 مليون مواطن ما بين شباب وفتيات قد اجتازهم قطار الزواج ويتمتعون بلقب عانس أى لم يحققوا احتياج الزواج الفطرى .. الذى هو غريزة فسيولوجية مثل الطعام والشراب.. فكيف يمكن أن يسلب الإنسان حقا فطريا له وتنتظر منه عقلا مبتكرا ونجاحا فى العمل وتنمية .. وكيف تمر بمرحلة الأمان بعد ذلك وأنت تفكر فى رزقك وزرق عيالك .. تفكر فى غلاء الأسعار المستمر ..ويساورك القلق على أولادك ومستقبلهم وتعليمهم وعملهم وزواجهم .لقد أصبحنا فى كل موسم أو مناسبة يتملكنا الخوف أكثر وأكثر .. فاصبحنا نحمل هم المصاريف فى رمضان وكذلك فى الأعياد وفى موسم المدارس من مصاريف المدرسة إلى الملابس والكتب والدروس .. ويظل المواطن المصرى يعيش فى هذا الخوف وعدم الاطمئان حتى بعد أن يتخرج أولاده يحمل الأب هم وظيفتهم وتزويجهم بعد ذلك ويظل فى دوامة من عدم الامان المستمر. .. وكيف يشعر المواطن المصرى بالامان وهو مازال يقف فى طابور العيش لا على أمل أن يشترى بعض الأرغفة بل يأمل أن يخرج سالما حيا وسط هذا التدافع والزحام الشديد ولا سيما أن الصحف المصرية طالعتنا فى الايام الأولى من رمضان بوفاة أحد المواطنين فى محافظة قنا بعد أن اصابته سكتة قلبية أثناء وقوفه فى طابور الخبز نتيجة التزاحم والتدافع.. وبالطبع القواعد أو الاحتياجات الأخرى وخاصة الاحتياج إلى التقدير وتحقيق الذات لم تتحقق لأن المواطن المصرى نتيجة لضغوطه المتراكمة لم يجتهد من الأساس حتى يشعر بالتقدير وحتى لو اجتهد فالتقدير ليس من شيمة الحكومة المصرية .. فالموظف المصرى لا يعمل أكثر من نصف ساعة فى اليوم (فى القطاع الحكومى) على حسب الإحصاءات والدراسات الأخيرة وهذه هى النتيجة المنطقية للرواتب الحكومية الضئيلة وعدم وجود أى نوع من التقدير ..فالرواتب التى يتقاضاها الموظف الصغير مرورا بالمهن الحيوية كالطب والمحاماة وحتى أستاذ الجامعة .. لا تنم عن أى تقدير يذكر أو يدفع إلى مزيد من العمل والانتاج .. ولا شك أن المصرى بطبعه يحقق أقصى النجاحات إذا شعر بالتقدير والإحتواء ولدينا أمثلة عديدة على ذلك كالدكتور مجدى يعقوب استاذ الجراحة العالمى وكذلك د.فاروق الباز عالم الفضاء الشهير والدكتور احمد زويل، إنهم بالتأكيد لم يجدوا الحضن الدافئ فى بلادهم فبحثوا عن هذا الحضن فى أماكن أخرى تقدر عملهم وتعبهم وتعطيهم حقهم حتى صاروا من الاسماء اللامعة فى مجال العلم وهذه هى النتيجة المنطقية فبقاؤهم فى بلادهم لن يزيدهم إلا قوقعة فكرية فى حجرة صغيرة وأجور زهيدة وجدران وسط معامل ضيقة تضيق على علمهم بل تزهقه من الاساس. لذلك أدركت من ماسلو أن القدماء بنوا لنا الهرم ليعيش الأحفاد فى القاع.