من مزايا الانقلاب "بمصر" أنه وضعنا على نفس خريطة العالم الأيديولوجية!!. فلقد سقطت الأيديولوجيا فى العالم، ولم يعد هناك "ليبرالية" أو "اشتراكية"، أو غيرهما. ويعيش العالم عهد "الأجيال الثالثة" التى تحمل إرث الجيلين: الأول (واضع الأفكار) والثانى (مؤسس الدول)، وهى لا تملك رفاهية (التنازل أو الدفاع) عن الأفكار ولا تغيير منظومة الدول. كانت "مصر" إحدى الدول الاستثنائية التى ادَّعى الفرقاء السياسيون فيها أنهم أصحاب أيديولوجيات، وكنا نتكلم عن العلمانية حينًا، وعن الليبرالية أحيانًا، وعن اليسار الاشتراكى أو الماركسى حينا أقل. وكان الجميع يلقى بأفكاره "الخام" فى وجه الآخر، ويزايد الكل على الكل بقيمه ومثالياته التى يراها الأفضل، ولكن لم نر أحدا يغامر بتنزيل أفكاره على مؤسسات الدولة وكيفية إدارتها وفق فكره. أما الآن فقط وُضعت "مصر" على الطريق الصريح! فلا أفكار ولا اتجاهات.. فقط (مصالح) و(عقائد). فالعالم تحكمه "أصوليات" و"عقائد قديمة" تطل برأسها بقوة لتزيل ما اعتراها من أفكار حديثة، فقد بعث "الرئيس ريجان" "المسيحية البيوريتانية" من مكمنها، ونجحت فى توصيله إلى الحكم بضخ أربعة ملايين صوت فى صندوقه، وهم بالأصل يرفضون العمل السياسى، لكنه أقنعهم أن غاياتهم متوحدة فى نصرة "المذهب"، ومن هنا كان اشتراكهم، ومن يومها يصبح "اليمين المحافظ" مسيطرا تمامًا عبر أفكار عقائدية قديمة، وليست أيديولوجيات حديثة. بل إن "العولمة" نفسها هى خلاصة فكر إمبراطورى أصولى لا يؤمن بالحريات ولا تعدد الحضارات، وهى ببساطة "انقلاب عسكرى كونى" لضبط العالم على "ثلاثية النجاة"، وهى (الانتماء لأمريكا، والتحدث بلغتها، والتدين بدينها)، مع تفاصيل تبدأ بصبغ العالم بطرق الحياة الأمريكية. وما زالت أوروبا تموج بالحركات التى تريد بعث الأصوليات القومية القديمة، وتعود من جديد فلسفة بونابرت فى الإيمان بنظرية القوة والتى تعتبر أن السيطرة على أوروبا هى نواة السيطرة على العالم. وكذلك تطل بقوة الأفكار القومية النازية؛ حيث الشعار الهتلرى (الجنس الآرى فوق الجميع) رغم حظرها لتؤكد أن البحث عن "الهوية القومية" يعمل بقوة رافضا ارتماء أوروبا فى أحضان الحداثة بهدم الهوية!! ولولا التماسك السياسى بالدول الأوروبية لرأيناها وقد عصفت بها اتجاهات عنصرية حادة مثل حرب الحرية النمساوى و نظيره الفرنسى الذى بدأ يزحف وئيدا نحو السلطة، أو خروج هذه الأحزاب "النازية" و"القومية" المتعصبة فى البلدان الأخرى. والحاصل، أن الأفكار الحداثية أصبحت فى الجامعات، بينما العقائد القديمة تزحف لتُشعر الناس بالأمان بعد عقود القلق التى عاشوها فى ظل "الحداثة" و"ما بعد الحداثة". وحظ كل أمة يعتمد على حقيقة عقيدتها الأصيلة، والتى ستبعث حتما لتمحو الوافد. والانقلاب فى "مصر" يعرى الحقائق، ويفضح انتماء الفرقاء على قمة الهرم الثقافى بالوطن لعقيدة الانحياز "للقوة"، وليس "للأيديولوجيا". وأنت لن تسمع بعد الآن أى خلاف أيديولوجى فى إدارة الحكم، ولكن ستكون الأمور كلها طبقا للانحيازات. حينئذ تستطيع أن تعلن بكل ثقة عن سقوط كافة الأيديولوجيات الوافدة، ويصبح أمام الوطن أحد طريقين، إما تمهيد الطريق لسيطرة "العسكر" عبر "عقيدة القوة". أو دفاع الهوية عن نفسها وتمهيد الطريق لسيطرة "المواطن" عبر "العقيدة الأصيلة وشرائعها". وإذا كانت هوية "مصر" الأصيلة هى العقيدة الإسلامية بكل ما تعنيه من شمول (دين ودولة)، (عقيدة وشريعة). فنحن -إذن- أمام تنافس عقيدتين اثنتين للحكم، إما "شرائع الإسلام" وإما "شريعة القوة". وقد تسأل: وأين العقيدة المسيحية إذن؟ أجيبك بأن"الكنيسة" تضع نفسها كشريك أساسى فى الحكم، ولكنها إلى الآن ما زالت تلعب خطأ؛ حيث كانت فرصتها أن تطرح نفسها "كمعتقد مستقل" له شرائعه ومواقفه ورؤيته المتمايزة، ولكنها وقعت فى شرك (الصفقة السياسية)، التى وضعتها فى موضع التبعية "لعقيدة القوة"، ومن ثم فقد أصبحت "الكنيسة" إحدى أذرع هذه العقيدة، تنجح بنجاحها، وتسقط بسقوطها، مما يعرض مثاليات العقيدة المسيحية للانهيار إذا انهار حكم العسكر؛ حيث سيرى المسيحيون كنيستهم فى موقف التواؤم مع الحكم الجديد حتى ولو كان إسلاميا مرفوضا!.. مما يؤكد الانتهازية السياسية، ويسقط بقيم العقيدة ومثالياتها، وهذا من شأنه تدمير القيم والعقائد فى نفوس أصحابها لأنهم لا يرون لها وجودا على الأرض، ولكنهم يرون قادتهم الروحيين فى "جلباب الأقوى" ولو كان ظالما، أو حاقدة عليه رغم الخضوع له. وتاريخيا فقد تركت العقيدة الأرثوذكسية ميراثا استشهاديا طويلا للدفاع عن العقيدة، ولم تسر فى ركاب الدولة المنحرفة عقائديا، وهو ما أجبر "الدولة الرومانية" أن تتدثر هى بالعقيدة المسيحية لتثبيت ملكها. أما الكنيسة المصرية الآن فقد أصبحت تعمل كفصيل سياسى براجماتى لا تحكمه عقيدة، وإنما يسعى وراء مغانم، حتى لو عرضته للصدام مع المسلمين. أصبحت "الكنيسة" تابعة لا متبوعة ولا مستقلة، ومن ثم أصبح رهانها أرضيًا لا سماويًا، ومع انهيار حكم العسكر الوشيك سيشيع فى الأوساط المسيحية التفكك ويضيع التماسك الكنسى الذى صنعته أجيال عديدة، ويعيش القبطى رهينا للخوف من أخيه المسلم، لأن الممارسة الحالية أكدت أن "الكنيسة" لو استطاعت نزع عين المسلم ستأخذها، ومن ثم يعود (عدوك عدو دينك، واللى فى القلب فى القلب يا كنيسة) وأمثالها من العبارات الشعبية العدائية... وتخرج "المسيحية" بهذا من سياق "العقائد الراسخة" وتنضم لركب "الأحزاب السياسية الطائفية"... وهذه خسارة فادحة. لكن الأخطر أن عقائد أصولية مثل "القومية" والتى انبثقت عنها "الناصرية" أصبحت هى أيضًا فى نَفَسِها الأخير، بعد أن دأبت قديما على تقديم نفسها كنموذج للعزة الوطنية والجهاد ضد المحتل، ثم كانت مراجعاتها التى أضافت "الديمقراطية ومدنية الدولة" إلى لائحة أفكارها، ولكنها الآن تنحاز إلى "العسكر" بلا رؤية ولا مطالب سياسية ولا اقتصادية، مما يبشر بسقوط الفكر القومى "بمصر" بعد أن سقط "بالعراق"، وما زال فى نزعه الأخير "بسوريا". وإذا نظرنا الآن إلى "الليبرالية" و"الاشتراكية"، فسيكون هذا مدعاة للسخرية؛ إذ سنرى أدعياء الفكرين فى خندق مناصرة "دولة العسكر"، مختلفين فى ذلك مع فكرهم السياسى، وهم لا يقدمون ليبرالية مصرية أو اشتراكية مصرية، وليس أمامنا روشتة منهما للنهوض "بمصر"، وليس لدينا جدل أيديولوجى معتبر حول الأولويات، لا سيما الاقتصاد والسياسة.. ورغم فترات الإقصاء الطويلة إلا أن الفريقين لم يستعدا، ولم يشغلوا أنفسهم بالفكر وبالرؤية وبالإستراتيجية، ولكنهم دخلوا مباشرة إلى الصراع السياسى فى الخندق المعادى "للمعتقد الفكرى الإسلامى"، (فأسقطوا) أفكارهم فى أثناء (تثبيت) أقدامهم فى الحكم مع "العسكر"!... وأسهموا فى (إخلاء مصر!) من أى فكر آخر سوى (المعتقد الفكرى الإسلامى). إذن، مع مساوئ حكم "العسكر" إلا أن من أفضل نتائجه أنه يفرز المعتقد القومى الحقيقى للوطن وهو "الإسلام"، فلا أحد مستعد أن يقدم روحه فداء لفكرة عارضة. يمكنه -فقط- أن يشتهر بها ويجنى بها مالًا أو منصبا، ولكن فى حالة التضحية فالمعتقدات الأصيلة هى التى تبرز. وفى حالة مصر، فقد مسح "العسكر" بجرة قلم كل الأفكار الوافدة، ولم يعد بالصراع غير (الإسلاميين والعسكر) ويدور فى فلك الإسلاميين كل (وطنى) يرفض الديكتاتورية مهما كانت أفكاره، ويدور فى فلك العسكر كل (نفعى) ينتظر فرصة فى الحكم. أمام الإسلاميون -إذن- تحدٍّ كبير باغتنام هذه الفرصة، لا سيما وأن الإعلام العسكرى يضرب بقوة على أن هذه هى نهاية الحكم (الإسلامى) أو حكم (الإخوان) أو (فكرة الخلافة الإسلامية). وعلى "الإسلاميين" وحلفائهم الوطنيين أن يعلموا أنهم فى مرحلة متقدمة للغاية من الصراع، كانوا يتوقعونها بعد عدة أجيال، ولكن أكرمهم الله "بثورة يناير" وتوابعها لتبدأ صفحات الصراع عبر كتاب جديد، يحدد طرفى الصراع وعقيدة كل منهم. معركتنا ضد عسكرة الدولة بكل ما تعنيه من الحرب على قيم الأمة ومحو هويتها. ومعركتنا تعنى تثبيت الأمل فى قدوم الإسلام ونشر الثقة فى شرائعه، وجمع الناس حولها. سنبدأ بإسقاط العسكر... ثم نخوض معركة العقول والقلوب من جديد. كما بدأناها سنستكملها بمشيئة الله. لا رجوع.