في ظل صمت إسلامي من حكومات وشعوب ومؤسسات الدول الإسلامية، وعلى رأسها الأزهر الشريف، الذي دائما ما يصدر بيانات إدانة واستنكار لأحداث تقع هنا وهناك، وفق سياسات النظام الانقلابي الحاكم، أثار بيان وقعه 300 شخصية عامة فرنسية بينها الرئيس السابق ساركوزي، بعنوان "ضد معاداة السامية"، الجدل في الأوساط الغربية. وقد وقع على البيان شخصيات سياسية يمينية ويسارية، بينها الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، وزعيم اليمين لوران فوكييه، ورئيس الوزراء الاشتراكي السابق مانويل فالس، ورئيس بلدية باريس الاشتراكي السابق برتران دولانو، وفنانون، بينهم المغني شارل أزنافور، والممثل جيرار دوبرديو، ومثقفون ومسئولون دينيون من اليهود والمسلمين والكاثوليك. ومنذ ثلاثة أيام، يتصاعد الجدل في فرنسا إزاء نص البيان الذي نشرته صحيفة "لوباريزيان" الفرنسية بعنوان "ضد معاداة السامية الجديدة"، ويصف كاتبه الصحفي فيليب فال، المدير الأسبق لصحيفة "شارلي إيبدو"، المعروف بمواقفه الصهيونية، تصاعد الأعمال المعادية للسامية في فرنسا ب"الرعب الذي ينتشر كالنار في الهشيم وحملة تطهير خافتة". وأثارت الأسماء التي وقعت البيان حفيظة المسلمين في فرنسا وكذلك اليسار وشخصيات يهودية أيضا. واعتبر "فال" من خلاله أن الفرنسي اليهودي مهدد بالتعرض لاعتداء أكثر من الفرنسي المسلم ب25 مرة. ولعل أخطر ما يتضمنه هذا البيان هو دعوة الممثلين الدينيين المسلمين إلى "إبطال السور القرآنية"، التي يرون فيها "دعوة لقتل ومعاقبة اليهود والمسيحيين والملحدين". واعتبر البيان أن معاداة السامية التي تأتي من مسلمين هي أكبرُ خطر يتهدد إسلام القرن الواحد والعشرين وعالَم السلام والحرية، ويتأسف لأن هؤلاء الأئمة "موجودون تحت الحماية البوليسية، ما يدل على الرعب الذي يفرضه الإسلاميون على فرنسا". انتفاضة بين مسلمي فرنسا وبادرت شخصيات دينية مسلمة في فرنسا بالرد على هذا البيان، الذي يتدخل مباشرة في صلب الشأن الديني، ويحاول ممارسة ابتزاز وضغوط على إسلام فرنسا. منها عبد الله زكري، عن مرصد الإسلاموفوبيا، الذي رأى في هذا البيان "نوعا من الجدل المثير للغثيان والكارثي". في حين سخر إمام مسجد بوردو، الشيخ طارق أوبرو، ممن يرون في القرآن "دعوة للقتل"، وكذلك من نقص الثقافة الدينية لدى موقّعي البيان، ومن بينهم أئمة. وقال: "أعتقد أن الذين وقَّعوا على البيان قرءوا ترجمة للقرآن، وتفسيرا له". وكان إمام مسجد باريس الكبير، الشيخ دليل بوبكور، المعروف بمواقفه التصالحية، التي كثيرا ما أغاظت فئات عديدة من مسلمي فرنسا، وببعض علاقاته مع مسئولين سياسيين ورجال دين يهود، من أوائل من تصدوا للبيان، الذي وقعته أكثر من 300 شخصية، مُعتبراً أنه "محاكمة غير عادلة". وحذّر من "دفع الطوائف في فرنسا للمجابهة فيما بينها"، مكررا القول: "إن المواطنين الفرنسيين من أتباع الديانة الإسلامية في أغلبيتهم متعلقون بالقيم الجمهورية ولم ينتظروا هذا البيان، حتى يُدينوا ويحاربوا، منذ عقود، معاداة السامية والعنصرية المعادية للمسلمين، بكل أشكالها". رفض التوقيع كما عبّرت شخصيات فكرية وسياسية فرنسية عن رفضها التوقيع على البيان، الذي اعتبرته ناقصا ولا يشير إلى مختلف أشكال العنصرية والتمييز في فرنسا، وهو موقف فيليب بوتو، مرشح الحزب الجديد المناهض للرأسمالية في الرئاسيات السابقة، وهو موقف كثير من ممثلي حركة "فرنسا غير الخاضعة". ونشر المؤرخ الفرنسي، من أصول يهودية، دومينيك فيدال، مقالا بعنوان: "ضد معاداة السامية، بإصرار ودم بارد"، كتب فيه: "أتقاسم مع موقّعي البيان قناعة واحدة، وهي أن مكافحة معاداة السامية تشكل واجبا أخلاقيا وسياسيا كبيرا في مجتمع تقضمه مختلفُ أشكال العنصرية. ولكني لستُ متفقا، لا مع تحليل الظاهرة ولا مع مسار مكافحتها". وعاب "الغياب الكبير للصراع الإسرائيلي الفلسطيني" في البيان، واعتبره "جُبناً". وأضاف: "إن الجرائم الإسرائيلية خلال الأسابيع الأخيرة ضد متظاهري غزة، والتي يبررها قسمٌ من الذين وقّعوا على البيان، تسببت، مثلا، في صعود معاداة سامية أكثر من كل الآيات القرآنية التي انتقدها البيان". وتابع أن "إحلال السلام في الشرق الأوسط لن يقضي، بمعجزة، على معاداة السامية، ولكنه سيساهم في ذلك بشكل حاسم"، خاتما بأن "وضع تراتبية بين أنواع العنصرية هو السقوط في العنصرية. كما أن وضع تراتبية في الصراع ضد العنصرية، هو تخريب لهذا الصراع". فيما نشر الباحث مروان محمد، مدير "التجمع ضد الإسلاموفوبيا في فرنسا"، مدونة، في موقع "ميديا بارت"، بعنوان "الإسلاموفوبيا لن تكون جوابا على معاداة السامية"، أوضح فيها أنه "لا توجد معاداة سامية مسلمة"، و"لا إسلاموفوبيا يهودية"، وإنما سلوكيات وأفعال معادية للسامية من بين مرتكبيها مسلمون ويهود. وذكّر مروان محمد بأن "النظام القضائي الفرنسي مرتكزٌ على مفهوم المسئولية الفردية". واستعان بالفقرة التي يتضمنها الإعلان الوزاري لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا في 5 ديسمبر 2015، والتي وقعت عليها فرنسا من بين 57 دولة، التي تقول: "الإرهاب والتطرف العنيف لا يمكن ولا يجب إشراكهما مع أيّ عِرق وإثنية وقومية ودين". ووصف بيان "لوباريزيان" بأنه "عنصري". وتابع: "العنصرية هي استخدام انتماء الآخر ولون بشرته وقوميته أو دينه من أجل الحكم عليه ووصمه ومحاصرته وتحميله وزرا أكبر من ثقل أفعاله وخياراته، وهو ما يفعله، دونما خجل، موقّعو النصّ". وانتقد محمد وهو باحث فرنسي، من أصول مصرية، "تقديم السياسة الاستعمارية الإسرائيلية باعتبارها طليعة الكفاح ضد الجهادوية، في حين تتوسع المستوطنات باستمرار، ويقتل الجيش الإسرائيلي مدنيين فلسطينيين من دون أدنى ضغط، كما هو حال غزة منذ أسابيع، في احتقار للقرارات الدولية وفي إفلات كلّي من العقاب". كما انتقد "تجريم الدعم للفلسطينيين في أوروبا، من خلال خلق غموض متعمَّد بين انتقاد الصهيونية وبين معاداة السامية". اتهامات واهية وقال البيان: "في تاريخنا الحديث قتل أحد عشر يهوديًا- تعرّض بعضهم للتعذيب- لأنهم يهود بأيدي إسلاميين متطرفين". ويشير موقعو البيان بذلك إلى مقتل الشاب إيلان حليمي في 2006، والهجوم على مدرسة يهودية في تولوز (جنوب) في 2012، والاعتداء على محل لبيع الأطعمة اليهودية في باريس في 2015، وقتل سارة حليمي في باريس في 2017، وأخيرًا قتل سيدة ثمانينية تدعى ميراي نول في العاصمة الفرنسية. عثر على هذه السيدة في 23 مارس مقتولة بطعنات سكين، وجثتها متفحمة جزئيًا، في شقتها. وشارك آلاف الأشخاص في "مسيرة بيضاء" ضد معاداة اليهود، بعد جريمة القتل هذه، بحسب مزاعم البيان. تراجع العنف ضد اليهود وتفيد أرقام وزارة الداخلية الفرنسية بأن الأعمال المعادية لليهود تراجعت بنسبة 7 بالمئة في 2017 للسنة الثالثة على التوالي. ويشكل اليهود حوالى 0.7 بالمئة من السكان. وينذر البيان بمزيد من معاداة المسلمين وتسويغ الاعتداءات عليهم، حيث إن البيان يسبق صدور الكتاب الجديد "معاداة السامية الجديدة في فرنسا". وعن مخاطر البيان يقول دليل بوبكر، عمدة مسجد باريس في بيان أصدره: "الدعوى الجائرة والمتوهمة بمعاداة السامية في هذا البيان بحق الإسلام وبحق مواطنين فرنسيين مسلمين يهدد بخطر إثارة الطوائف الدينية ضد بعضها البعض". وفي حديث ل"فرانس تي في إنفو"، وصم طارق أوبرو، إمام مسجد بوردو الكبير، نسبة معاداة السامية إلى القرآن بأنه خطأ معرفي فادح، ويوضح قائلا: "إن القرآن لا يدعو للقتل بل يدعو لقتال المعتدين"…مشيرا لجرائم اليهود ضد المسلمين في كل بقاع الأرض وفي فلسطين. ولعل الصمت العربي والإسلامي يشجع حركات التطرف اليمينية واليسارية ضد الإسلام في أوروبا وفي فرنسا، حيث يشجع ذلك الصمت التعرض للقرآن بالإساءة، وتوصيف المسلمين بالتطرف والعنف والاستهانة بالقرآن الكريم. وعلى عكس ذلك الصمت المخزي، شارك رؤساء عرب ومسلمون في تظاهرة التعاطف مع صحيفة "شارلي إيبدو" التي أساءت للإسلام ونبي الإسلام، والتي هرع مسئولون عرب للتظاهر تضامنا معها على الهجوم على مقرها.