الراصد للواقع السياسى المصرى لا يمكنه أن يتجاهل حالة الاختلاف التى تتزايد شُقَّتُها بين الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة من جهة، والدعوة السلفية السكندرية وحزب النور من جهة أخرى، وهو أمر يؤلم -بلا شك- المحبين والمناصرين للمشروع الإسلامى الذين يتمنون مخلصين أن يكون التواصل أوثق والتعاون أقوى بين أكبر فصيلين يتبنيان المشروع الإسلامى، وهو أمل يراود جميع العاملين للإسلام والداعين للشريعة، وثمة جهود لا تنقطع للتقريب والتوافق بين كل الداعين لتطبيق الشريعة الإسلامية، وهى جهود تنجح حينا وتتعثر أحيانا، ولست بصدد الحديث عن أسباب التعثر، ولا من هواة نثر الملح على الجرح، واهتمامى دائما بوضع المراهم لتحقيق التعافى، ويقينى بأن النجاح إن شاء الله سيكون حليف الصادقين المخلصين العاملين على التقارب والإصلاح والتعاون على البر والتقوى. ولكنى فى هذا المقال أذكر نفسى وإخوانى فى كل الفصائل الإسلامية بتطبيق بعض ما يعلمه الجميع عن آداب الاختلاف والأصول الشرعية والأخلاقية للتعامل عند الاختلاف، حتى لا ننجر إلى ما يريده خصوم مشروعنا الإسلامى، وحتى لا يستخدم الرافضون لمشروعنا بعضنا ضد بعض، ثم نندم بعد فوات الأوان، وهاكم أهم ما أذكر به نفسى وإخوانى جميعا: أولا: أن نقتدى بأئمة الإسلام العظام الذين كانوا رجال صدق وعمد إخلاص وطلاب حق وأنصار حقيقة، وأن يكون رائدنا جميعا تحرى الحق وتوخى الصواب بنية مخلصة، وليس السعى وراء مكاسب حزبية أو شخصية هى بالضرورة زائلة، وليكن دعاؤنا عند الاختلاف «اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم». ثانيا: لا بد أن ندرك أن الاختلاف فى الفهم والاستنباط أمر طبيعى، ومن واجبنا التماس العذر للمخالف إن غابت عنه بعض الحقائق أو الأدلة، وينبغى أن نلتزم باحترام وتوقير المجتهدين فى المسائل الفرعية مهما اختلفنا معهم، من غير تسفيه ولا تحقير ولا تصيد للأخطاء والزلات العارضة، وعدم المبالغة فى تعظيم الشيوخ الأقرب إلى القلب أو المذهب أو الجماعة، أو المبالغة فى تضخيم أخطاء الشيوخ المخالفين على حساب الحق. ثالثا: أن كل عالم وكل مجتهد فى فروع الشريعة يؤخذ من قوله ويترك إلا الصادق المصدوق والنبى المعصوم صلى الله عليه وسلم، وحين نأخذ برأى بعض المجتهدين ونترك رأى غيره فليس ذلك انتقاصًا من فضل من خالفناه، ولا يجوز لنا أن نطعن فيمن خالفه أو ننتقصه أو نهون من قيمته أو نحط من قدره، فإن ذلك مناف للعدل والإنصاف وإحسان الظن به الذى دعت إليه الشريعة ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8]، وغاية ما يمكن أن يقال فيه: إنه اجتهاد إن أصاب صاحبه فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد. رابعا: أن نلتزم نهج الأئمة الكرام الذين ما كانوا يترددون فى الرجوع عن الرأى إذا ظهر لهم خطؤه، ولا يجدون أدنى غضاضة فى إعلان خطئهم والرجوع إلى ما ظهر صوابه، وعلينا أن نتبنى عمليا المقولة التى تواترت عنهم: «رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب» وليس منا أحد أعطاه الله موثقا من الغلط أو أمانا من الخطأ، بل وصل الله عباده بالعجز والحاجة ووصفهم بالضعف والعجلة ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 28] ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ [الأنبياء: 37] ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 76]، ومن ثم فلا ضير أن يرجع الإنسان أو يرجع الحزب عن رأيه إذا ثبت له أن الصواب على خلافه، ومن أروع ما وصلنا من ذلك: ما ذكره القاضى عياض بن موسى اليَحْصُبِى عن أبى يوسف القاضى ومحمد بن الحسن صاحبى أبى حنيفة وناشرى مذهبه فى العالمين أنهما رجعا عن ثلث مذهب شيخهما أبى حنيفة، حين رأيا الدليل على خلاف قول إمامهما، وليس ذلك بقادح فى أبى حنيفة ولا فى تلميذيه المباركين، فإن ما ظهر لهما من الأدلة لو اطلع عليه أبو حنيفة لقال به. لكل هذا لم يكن اختلاف السلف داعيا إلى الفرقة ولا باعثا على القطيعة ولا دافعا إلى السب أو الشتم أو التجهيل والتسفيه والتحقير، فضلا عن التفسيق والتبديع والتضليل، بل غاية ما كان يدور فى صدر الواحد منهم أن مخالفه أخطأ فى تلك المسألة لا فى كل المسائل. خامسا: أن نحرص على انتقاء أفضل الألفاظ للتعبير عن آرائنا ومواقفنا، دون التعرض بالإساءة أو التحقير لموقف المخالف أو الطعن فى دينه، ومَنْ أوْلَى منا بقول الله تعالى ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83]؟ ومن أحق منا بتطبيق الأمر الإلهى ﴿وَلَا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِى حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34]؟ وإذا كان القرآن قد علمنا أن نقول للمشركين الذين لا ريب فى أنهم على باطل ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [سبأ: 24، 25]، وعلينا أن نتأمل الأدب الراقى العالى الذى كان يتخاطب به أئمتنا الأعلام فيما بينهم فى المسائل التى اختلفوا فيها. سادسا: ألا يدفعنا الاختلاف فى أى مسألة إلى التباغض أو إعلان الغضب ضد بعضنا البعض، قال الذهبى فى سير أعلام النبلاء: قال يونس بن عبد الأعلى الصدفى: ما رأيت أعقلَ من الشافعى! ناظرتُه يوما فى مسألة ثم افترقنا، ولقينى فأخذ بيدى ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق فى مسألة؟! قال الذهبى: قلت هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه فما زال النظراء يختلفون. وقال أحمد بن حنبل: لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق بن راهويه وإن كان يخالفنا فى أشياء، فإن الناس لا يزال يخالف بعضهم بعضا. وعن العباس بن عبد العظيم العنبرى قال: كنت عند أحمد بن حنبل وجاءه على بن المدينى راكبا على دابة، قال: فتناظرا فى الشهادة (يعنى الشهادة بالجنة لمن شهد بدرا والحديبية ولمن جاء نص فى استحقاقه الجنة) وارتفعتْ أصواتهما، حتى خفتُ أن يقع بينهما جفاء، وكان أحمد يرى الشهادة وعلى يأبى ويدفع، فلما أراد على الانصرافَ قام أحمد فأخذ بركابه. وعن عبد العزيز بن محمد قال: رأيت أبا حنيفة ومالك بن أنس فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العشاء الآخرة، وهما يتذاكران ويتدارسان، حتى إذا وقف أحدهما على القول الذى قال به صاحبه أمسك الآخر من غير تعنيف ولا تَمَعُّرٍ ولا تخطئة، حتى يصليا الغداة (يعنى الفجر) فى مجلسهما ذلك. وقال ابن مهدى: كنا فى جنازة فسألت الحسن بن عبد الله العنبرى عن مسألة فغلط فيها فقلت له: أصلحك الله! القولُ فيها كذا وكذا. فأطرق ساعة ثم رفع رأسه فقال: إذًا أرجع وأنا صاغر، لَأَن أكون ذَنَبًا فى الحق أحبُّ إلى من أن أكون رأسا فى الباطل. وختاما: فلنتعاون فيما اتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه، وليكن الحوار الجاد والصادق وقصد الوصول إلى الحق والصواب سبيلنا لتحرير الخلاف والتعامل معه. أعلم أنى لم أكتب جديدا فى هذا المقال، لكنى أردت التذكير لنفسى ولإخوانى فى كل فصائل العمل للإسلام العظيم فى هذا الظرف الدقيق الذى تمر به أمتنا، لعل الله يستخدمنا جميعا لنصرة دينه وتطبيق شريعته وإعلاء رايته، والذكرى تنفع المؤمنين.