خرجت ثورات الربيع العربى من رحم معاناة الشعوب من أنظمتها الديكتاتورية والقمعية التى ظلت جاثمة على مقدرات الأوطان لسنوات طويلة، واتخذت من الطرق البوليسية وسيلة أساسية للحفاظ على كراسيها وحكمها، فقد قامت باعتقال المناضلين السياسيين والمعارضين لها من كل الأطياف، لكن الشعوب ثارت بقوة فى وجه هذا الظلم ونجحت فى اللحاق بركب الحرية بعدما تحررت من قيود الذل والظلم. وقد قادت نتائج ثورات الربيع العربى المخرج يحيى حسين ليقوم بإخراج فيلم بعنوان "زوجى مقاوما" يتناول فيه مأساة زوجات المقاومين الفلسطينيين الذين قاوموا الاحتلال الإسرائيلى ودفعوا الثمن غاليا؛ إما بالاعتقال والزج بهم فى براثن سجون الاحتلال وإما بالإبعاد عن الوطن والعيش بعيدا عن الأهل والأرض، أو الاستشهاد فى سبيل تحرير الأرض المحتلة، أو حتى الحالات الثلاث معا، ويتطلع الفيلم إلى أن تحقق فلسطين الحلم والأمل وتلحق بركب الربيع. معركة جنين اختار المخرج عددا من هؤلاء المناضلين الذين قاوموا الاحتلال الإسرائيلى فى الأراضى الفلسطينيةالمحتلة واستشهد معظمهم، ويتوجه نحو زوجاتهم لتتحدث كل منهن عن مسيرة زوجها النضالية وعن حياتها وذكرياتها معه وتجربة اعتقاله أو استشهاده أو إبعاده وعن معاناتها فى ظل غيابه وفقدانه. فها هى أسماء أبو الهيجاء -زوجة المقاوم الأسير جمال أبو الهيجاء من حركة "حماس"- والذى كان أحد قادة معركة جنين عام 2002 واعتقل وقطعت يده اليمنى وحكم عليه بالسجن المؤبد تسع مرات، بينما هى اعتقلت لمدة عام بغية الضغط على زوجها لتسليم نفسه، وهى أم لثلاثة أولاد وابنتين، تتحدث عن خوض زوجها لمعركة جنين وهى تترقب كل يوم أن يأتى خبر استشهاده وعن صورة هذا الاستشهاد التى كان يضع عائلته فيها لكى يخفف من وقعه عليهم فى حال حصوله وعن ظروف وطريقة ومكان اعتقاله فى أثناء تلك المعركة وعن طيفه الحاضر فى كل تفصيلة من تفاصيل حياتها اليومية وحتى "فى الطبخات التى يحبها". بالون فوق الكنيسة مأساة أسماء أبو الهيجاء لا تقل عن مأساة كفاح حرب زوجة عبد الله داود أحد مبعدى كنيسة المهد فى بيت لحم التى لجأ إليها المقاومون بعد أن طاردتهم قوات الاحتلال عام 2002 واحتضنتهم الكنيسة فى إحدى قاعاتها لتسعة وثلاثين يوما، وكفاح ناشطة حقوقية وأم لولد وبنت وتعرضت مع زوجها للإبعاد أكثر من مرة. تأخذنا كفاح إلى كنيسة المهد وتشعل شمعة لتكون بصيص أمل بعودة أولئك المبعدين وتروى بكثير من الحزن قصة ذلك الحصار وما رافقه من قلق وخوف وترقب، فكان الحصار من السماء والأرض؛ فهناك بالون يحوم فوق الكنيسة ويرصد كل تحرك يقوم به هؤلاء المقاومون والتهديد بالقنص مع كل لحظة وحركة. تم إبعاد زوجها عبد الله داود إلى موريتانيا، ومن هناك انتقل إلى الجزائر وتوفى فيها ليعود إلى فلسطين جثة هامدة تستعيد كفاح تلك الأحداث المريرة وترويها بغصة. إصرار على البقاء قصة مأساوية أخرى يعرضها الفيلم، عاشتها رنا يغمور -زوجة الأسير ياسر الشرباتى- الذى اعتقل فى انتفاضة الأقصى وحكم عليه بالسجن المؤبد وبعد اعتقال زوجها تعلمت رنا التصوير الفوتوجرافى وهى تعمل به لكسب عيشها وإعالة أولادها الثلاثة. وتروى رنا كيف تم اعتقال زوجها فى عيد الأضحى بعد مداهمة البيت لعشرة أيام متتالية وما كانت تتركه حملات المداهمة تلك من خوف ورعب وسط الأطفال الصغار، وكيف كان جنود الاحتلال يأمرون أفراد العائلة كلهم بالخروج ليلا من البيت وسط البرد الشديد. وتضيف قائلة: "قبل ليلة اعتقاله جاء الجيش الصهيونى وقال لى إما أن تقولى له أن يسلم نفسه أو نأتى لك به فى كيس"، وتحكى عن الضغوطات التى تعيشها فى غياب زوجها وعن إصرارها على البقاء فى عهدته رغم أنه يقضى عقوبة السجن المؤبد رغم كل تلك الضغوطات وإصرارها على مواجهة كل الصعوبات التى تمر بها هى وأولادها وعلى سعيها لجعل أولادها يعيشون فى أحسن حال. وتطوف الكاميرا ببيتها لنرى أطفالها وطريقة عيشهم وتحركهم وسلوكهم وعلاقاتهم بها وببعضهم بعضا، وأن المهم فى علاقتها مع محيطها الاجتماعى هو الاهتمام بأولادها والسؤال عن والدهم الأسير وهذا ما تفتقده. بعد رنى يغمور تأتى أم عزام مسلمانى -زوجة الأسير على مسلمانى- الذى اعتقل عام 1987 وأمضى فى سجون الاحتلال الصهيونى أكثر من اثنين وعشرين عاما وخرج فى صفقة تبادل الأسرى الفلسطينيين مع الجندى الإسرائيلى جلعاد شاليط عام 2011. تتحدث أم عزام عن حياتها ومعاناتها خلال السنوات الطويلة لاعتقال زوجها فعندما اعتقل كان الولد الصغير عمره شهران والكبيرة سنة ونصف سنة، أنهت البنت الدكتوراه وأبوها فى السجن، زوّجتهم وصار عندها عشرة أحفاد، توفيت أم زوجها وتوفى أخوه وتوفيت أخته وهو فى السجن بعد معاناة طويلة وتنهى حديثها بكلمة "الحمد لله". حصل المخرج على الشهادة من أم عزام ليلة إتمام صفقة تبادل الأسرى ومن ثم كانت تتحدث وهى منتظرة عودة زوجها وتدعو الله أن تتكرر هذه الفرحة إلى أن تتبيض كل السجون. وترصد لنا الكاميرا الاستعدادات لاستقبال الأسير فى داخل البيت وفى خارجه وفى القدس، وكيف تم الإفراج عن على مسلمانى وكيف استقبله أهله وذووه. صراع العقل والعاطفة عبير عمرو، امرأة أخرى لها قصتها ومأساتها المختلفة؛ حيث استشهد زوجها الأول حازم عمرو فى انتفاضة الأقصى فتزوجت من أخيه أيمن عمرو الذى اعتقل وحكم عليه بالسجن لسنوات طويلة لكنه خرج فى صفقة تبادل الأسرى عام 2011 وتم إبعاده إلى غزة فانتقلت العائلة معه لتعيش هناك. هنا يتحول الحديث ليدور حول قضية فى غاية الحساسية؛ قضية المرأة التى استشهد زوجها وأصبحت مدار مراقبة المجتمع التقليدى لكل حركاتها وتنقلاتها اليومية؛ فيقترح عليها المقربون والأهل أن تتزوج أخ الشهيد، وكان الاقتراح بمنزلة صدمة لها وعلى أخ الشهيد وجعل كلا منهما يعيش صراعا يمكن وصفه بأنه صراع بين العقل والعاطفة النابذة إن صح التعبير التى تجعل الشخص يرفض الزواج من زوجة أخيه الشهيد وتجعل المرأة ترفض الزواج من أخ زوجها، بينما يوصى العقل بضرورة حصول مثل هذا الزواج كونه يحمى أولاد الشهيد بوضعهم فى كنف عمهم ويحمى الزوجة من أعباء مواجهة الحياة بمفردها ويضع حدا لمراقبة الناس وأقاويلهم ومع ضغط الأهل وتشجيعهم وقليل من التفكير العقلانى بوضع الزوجة الأرملة وأولادها الأيتام يتم هذا الزواج رغم صعوبته عليهما، لكن بعد مضى أربعين يوما عليه يتم اعتقال أيمن ولا يفرج عنه إلا فى صفقة التبادل. ميسر جابر، زوجة مقاوم آخر هو يوسف السركجى الذى اعتقل عام 1988، وتم إبعاده إلى منطقة مرج الزهور فى جنوب لبنان عام 1992 وبقى مطاردا خلال انتفاضة الأقصى إلى أن تم اغتياله بعملية خاصة، وبعده لم تتزوج ميسر ولها منه ولدان وابنتان. تتحدث ميسر عن حياتها مع زوجها وطريقة جنود الاحتلال الهمجية فى اعتقاله ومن ثم إبعاده إلى مرج الزهور وكيف استقبلهم الضابط الإسرائيلى فى أثناء عودتهم إلى فلسطين ووصولهم إلى منطقة الفارعة بالقول أهلا بالأبطال العائدين؛ ما يعنى أن بطولتهم أثارت إعجاب العدو قبل الصديق، كما تتحدث عن القلق والخوف الذى لازمها فى أثناء مطاردته وتوارد الأنباء عن اغتيال المقاومين وخشيتها فى كل مرة يتم فيها اغتيال أحدهم من أن يكون هو الضحية وكيف تلقت نبأ الاغتيال إثر اجتياح قوات الاحتلال لمدينة نابلس. فما زالت تحتفظ بالمنديل الذى يحمل آثارا من دمه عندما ودعته وألقت عليه النظرة الأخيرة فى ثلاجة المستشفى. ومع انتهاء حديثها، يعرض المخرج صورا أرشيفية لجنازة المقاوم يوسف السركجى، ومن ثم يعود إلى الزوجة لنشاهدها فى روضة أطفال وقد سميت باسمه وهى تقول إنها غير نادمة على زواجها منه ولو عاد الزمان وجاء وطلبها من جديد فستوافق. ويتبع ذلك لقاء مع زوجة مقاوم آخر هى ياسمين شمالى زوجة الشهيدين عاهد وعمار شمالى؛ فعاهد استشهد فى عملية اشتباك مع قوات الاحتلال داخل قطاع غزة ولم يمض سوى أربعين يوما على زواجهما، وتزوجت بعده شقيقه عمار الذى استشهد خلال الحرب على غزة عام 2008. وشمالى لديها أربع بنات وتواصل دراستها الجامعية بعد أن تروى قصة استشهاد زوجها الأول عاهد واضطرارها للزواج من أخيه، تتحدث عن زوجها الثانى وقلقها عليه وترقبها لنبأ استشهاده وأن أكثر ما يؤلمها ويحزنها هو استشهاده فى اليوم نفسه الذى عرفت فيه أنها حامل وتتجاوز ياسمين حالة الصدمة والحزن والمأساة التى تركها استشهاد زوجها الثانى وتقرر مواصلة الحياة رغم كل الصعاب، فتكون فى وقت واحد الأم والأب لأربعة أطفال، كما تواصل دراستها الجامعية وتنجح بتفوق. من أجمل مشاهد الفيلم المشهد الأول الذى نرى فيه زوجة أحد المناضلين الشهداء وربما كانت هى نفسها ياسمين فهى مرتدية للنقاب وهى تنظف بندقيته وتضع مخازن الرصاص فى حقيبته وتكوى بذلته العسكرية وكأنه سيأتى بعد قليل ويرتدى البذلة ويحمل البندقية وحقيبة الرصاص ويمضى إلى المعركة إنه مشهد تمثيلى يعيد إحياء تلك الحالة اليومية، كما يبدو لتلك الزوجة التى وقفت إلى جانب زوجها المقاوم بكل ما تملكه من قوة ووعى لأهمية المقاومة ضد الاحتلال الصهيونى. لم يعتمد المخرج فى فيلمه على السرد الذى يأتى من خارج الصورة وإنما اكتفى بالمقابلات وكتابة نبذات مختصرة عمن يقابلهن والأحداث، بالإضافة لاستخدام الصور الأرشيفية لتلك الأحداث، وأهمها معركة جنين 2002، وصفقة تبادل الأسرى عام 2011، ومنها صور الإفراج عن الأسير على مسلمانى وعمليات الاغتيال فى أثناء انتفاضة الأقصى واجتياح نابلس 2002. عمل المخرج فى فيلمه بإيقاع هادئ حزين فرضه الموضوع المتناول وعززه بجمل موسيقية هادئة حزينة لآلة البيانو أحيانا وأروكسترالية جنائزية أحيانا أخرى بدأت مع بداية الفيلم وتخللت اللحظات التى ترافق أو تعقب الكلام الحزين للزوجات والذى يثير لدى المشاهد المزيد من الحزن والأسى على مصائرهن بعد استشهاد أو اعتقال وسجن أزواجهن. ولم يخل الفيلم من الرمز كما هى الحال مع المشهد الافتتاحى عندما يتم وضع وردة فى فوهة البندقية للتعبير عن الحلم باليوم الذى يأتى وتطلق فيه هذه البندقية الورد بدل الرصاص؛ فالوردة استخدمها المخرج أيضا فى اللقطة الختامية؛ حيث صورها وهى ملقاة فى بحر عاصف لتكون كناية عن هؤلاء النسوة اللواتى استشهد أزواجهن ليتركن فى مواجهة عواصف الحياة.