تقع فى مصر أحداث متفرقة ولأسباب تافهة تفسر أحيانا على أنها احتكاك بين المسلمين والمسيحيين، وهى فى أحيان أخرى موجهة مباشرة إلى المسيحيين وإلى الكنائس. وقد بدأت هذه الأحداث منذ بداية السبعينيات فى الزاوية الحمراء، ووضعت لجنة تقصى الحقائق علاجا لها لكنه لم ينفذ. ثم تفاقمت أحداث الاعتداء على المسيحيين وكنائسهم فى أواخر عهد مبارك، وكان الاعتقاد السائد هو أن هناك عمليات مخططة بعضها من جانب الخارج، وبعضها من جانب النظام نفسه، لكى ينشغل الشعب من المسيحيين والمسلمين بهذه الأحداث فيسهل حكم مصر بكل الفساد والقهر الذى مثله النظام. وكانت الحكومة وسلطات الأمن، خاصة وزير الداخلية، المتهمين الرئيسين، الحكومة بسياساتها، والأمن بانحيازه إلى المسلمين ضد المسيحيين. هكذا أصبح النظام والأمن هدفا للمسيحيين، كما كانا هدفا للمسلمين، وهذا هو السبب فى شعور الشعب كله بأن هناك مؤامرة عليه من النظام والأمن، خاصة بعد تفجير كنيسة القديسين فى الإسكندرية، وهذا تفسير -ضمن أسباب أخرى- للالتحام المطلق بين المسلمين والمسيحيين وشعور الجميع بأن مصر الحبيبة وشعبها الطيب ضحية مؤامرة عليه من أعداء الاستقرار، وذلك خلال مشاهد الثورة التى صهرت الجميع فى بوتقة واحدة. وظن الجميع أن أسباب الشقاق بينهم قد انتهت بسقوط النظام وأسنانه الأمنية التى جعلت أمن الشعب سندا لنظام باطش، بل كانت أياديه الباطشة، بينما بدا مبارك بريئا خيّرا محسنا وأنه مع الشعب لولا فظاعة المحيطين به من رجاله، خاصة فى مجال الأمن. وعندما حكم المجلس العسكرى تحول العداء المسيحى إليه، خاصة بعد أحداث ماسبيرو، واعتبر البعض أن السلطة أيا كان شكلها هى العدو وهى السبب فى شقاق المسلمين والمسيحيين، وفى هذه الظروف نشطت البؤر المتآمرة وبدأت الأحداث المؤسفة فى موجة جديدة فى الصعيد وفى الأحياء الشعبية وأعادت إلى الذاكرة مرة أخرى صور المآسى السابقة، فأخذت مشاهد الثورة وتلاحم الشعب تتلاشى، وبدأت مظاهر الشقاق فى الظهور. والحق أن هناك عدة عوامل زادت الموقف توترا، دون أن تؤثر على حقيقة أكيدة، وهى أن علاقة المسلمين والمسيحيين سليمة وأن الشحن الطائفى هو الذى يعكر النفوس. وقد تمت مراجعة حوادث العنف الطائفى والنهايات التى وصلت إليها فى كل مرة دون أن تقتلع جذور المشكلة. يتوازى هذا الشحن مع تواتر الحديث عن العوامل الأربعة التى تزيد الموقف اشتعالا. العامل الأول هو انخراط معظم المسيحيين فى التصويت لصالح أحمد شفيق على أساس أنه لا ينتمى إلى التيار الإسلامى. هذا العامل يقدمه البعض على أنه أحد مؤشرات وأسباب الأزمة، ولكن هذا العامل يدحضه أن قسما كبيرا من الذين صوتوا للمرشح الإسلامى فعلوا ذلك حتى لا تأتى الثورة برمز من رموز النظام الذى قامت ضده، وإلا كانت نتيجة شاذة، فلم ينفرد المسيحيون بالتصويت لصالح الفريق أحمد شفيق. العامل الثانى هو بعض الاتجاهات المتطرفة فى التيارات الإسلامية، خاصة السلفية، وهى الاتجاهات التى استغلت من جانب أوساط معينة حتى تبرر مواقف العداء والتطرف من الجانب الآخر. ارتبط ذلك بضعف الدولة عموما والأمن خصوصا بعد الثورة، وهو ما فسر بأنه مقصود فى حالة المسيحيين، حتى إنه فى أحداث الكاتدرائية يوم 7 إبريل الجارى تردد بين أوساط مسيحية بأن الأمن تخلى عن حراستهم وأن المعتدين فى الخصوص والكاتدرائية كان يمكن مواجهتهم والإمساك بهم لو أرادت السلطات بينما تردد أن المعتدين مجهولون. العامل الرابع هو أن معظم المسيحيين مع المعارضة وأنهم اتهموا شخصيات فيهم بتشجيع أعمال العنف وتمويلها ورصدت لهذه الشخصيات تصريحات طائفية غير مناسبة، وقد شهدت مناقشة حول الشعارات الدينية واستخداماتها الانتخابية، ويرى المسيحيون أن استخدام شعار الإسلام هو الحل، يمكن أن يقابله المسيحية هى الحل، فندخل فى ملاحاة وجدل يؤججان الصراع على أساس دينى لأول مرة فى تاريخ مصر. فى هذا السياق لا بد من الإشارة إلى ما هو معلوم حول نظرية المؤامرة والحديث المتواتر عن مخططات تقسيم مصر وإفراد دولة فيها للمسيحيين، ويبدو أن هذه المخاوف هى التى أملت على واضعى الدستور الجديد تجريم تقسيم البلاد، واعتبار المادة الأولى ذلك جريمة، ويتعين على المشروع العادى أن يعتبرها من قبيل الخيانة العظمى. ونذكر فى هذا السياق بتركيز جميع الوفود الزائدة لمصر على قضية الأقليات والحديث المتكرر عنها، ثم تصريح رسمى أمريكى خلال أزمة المصريين المسيحيين فى ليبيا وإحراق كنيسة بنى غازى، بأن واشنطن قررت اتخاذ إجراءات ضد ليبيا انتقاما وضغوطا على الحكومة الليبية. الرسالة واضحة وهى أنه إذا كانت حكومة التيار الإسلامى عاجزة عن وقف اضطهاد المسيحيين فإن الذاكرة التاريخية تستدعى على الفور الحماية الأجنبية ثم رعاية مشروع التقسيم. لقد عاشت مصر طيلة تاريخها دولة موحدة وعبد شعبها إلها واحدا بشرائعه الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام، ولم تكن نظرية المؤامرة نحو التقسيم واردة، ولكن ضرب عنصرى الأمة بسياسة فرق تسد كانت ماثلة دائما فى السلوك الاستعمارى. الموقف الآن واضح وهو أن هناك مؤامرة، وهناك شحن، وضعف فى وعى المجتمع وشعور لدى المسيحيين بأنهم مضطهدون، وهو شعور جديد فى مصر، ويستحيل أن تصل مصر إلى حد الفتنة الطائفية لأن عموم المصريين من المسلمين والمسيحيين يشعرون بأنهم أبناء وطن واحد، فكيف نعيد عصر الوئام والانصهار والجسد الواحد الذى يلفظ المؤامرة والفتنة، ونوقف توظيف هذه الحالة فى الصراع السياسى وأن يكون التيار الإسلامى سياسيا لا علاقة له بالدين؟ وإخراج الدين ورموزه من معادلة السياسة؟ تلك مهمة النخب فى كل المجالات، ولكنها جميعا بحاجة إلى إرادة كما أن الإعلام الموضوعى بالغ الأهمية فى الحل. إن أمن مصر القومى يبدأ بمحاربة الفتنة حتى تحبط مؤامرة التقسيم لأن الأمن القومى يبدأ بالتماسك الاجتماعى والتوافق المجتمعى، وأخطر ما يصيب العمود الفقرى لهذا الأمن هو زرع الفتنة على أساس دينى، رغم أن الدين يحذر من الفتنة ويؤكد أنها أشد من القتل، ويدعو إلى المحبة والتراحم وأن العلاقة بين الإنسان وخالقه تمتد إلى علاقات المودة والتراحم مع الآخرين، ولم نر دينا أو شرعا يدعو إلى الإضرار بالغير أو تمزيق الدولة والإضرار بالسكينة العامة. ولذلك فإن الحروب الدينية قد أعاقت أوروبا عن النهوض لأكثر من مائة عام، وهى حروب بين أبناء الطوائف المسيحية أعقبت مرحلة الصراع باسم الدين فى عهد الحروب الصليبية. من الواضح أن بيت العائلة الذى نشأ لإنهاء الفتن الطائفية فكرة سديدة ولكنها بحاجة إلى خيال جديد؛ لأن الفتنة الدينية تنتشر فى المجتمع انتشار النار فى الهشيم، ولذلك تشتد الحاجة إلى وقاية المجتمع من شرورها، خاصة إذا كانت هذه الفتنة يتم صنعها وتوظيفها ضد المجتمع والدولة وسلامة الوطن وهى أخطر على الأمن القومى المصرى من العدوان الخارجى الذى يوحد الشعب ضد عدو واحد، ولذلك تلجأ القوى الخبيثة المعادية لمصر إلى صناعة الفتنة حتى تحقق فى مصر ما عجزت عن تحقيقه بالعدوان. وهكذا نرى أن الأمن القومى المصرى تتهدده أخطار جسام، وهى الفتنة الطائفية والمؤامرة فى سيناء وفتنة الإعلام وفتنة اللا وعى وفتنة التطرف والعجز عن احتواء مكونات الأمة فى مشروع قومى واحد يصرفها عن معارك الفتنة. وقد نجح جمال عبد الناصر فى أن يضع الشعب المصرى كله فى مشاريع التنمية وصد العدوان والوحدة الوطنية بين جميع أطياف الأمة؛ ولذلك نجت مصر من الفتن؛ فقد يكون ذلك على حساب بعض الحريات ولكن سلامة الأمم مقدمة على كل شىء. كذلك نجح أنور السادات فى شحن المشاعر الوطنية فى معركة العبور، وعندما قامت بدايات الفتنة الطائفية عام 1972 فإنه قضى عليها تماما ولو ببعض القسوة الأمنية. إن الأمن بالغ الأهمية فى إحباط المؤامرة ولكنه لا يكفى وحده دون غيره من العوامل الأخرى،خاصة الإنعاش الاقتصادى.