من الحقائق التى يجب أن يعيها الإنسان أن الخطأ فى حياة الناس أمر لازم الحدوث؛ لأنه من طبيعة النفس البشرية، إلا الأنبياء والمرسلين الذين يعصمهم الله، ولا يستطيع إنسان أن يدعى العصمة مهما كان شأنه فيقول أنا لا أخطئ، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "كل بنى آدم خطاء وخير الخطائين التوابون"، والخطأ الحقيقى هو عدم الاعتراف بذلك، أو الجدل فيه بالباطل. ويستلزم لذلك أن يراقب الإنسان نفسه ويرجع عن خطئه عندما يتبين له الصواب، ولأن الرجوع إلى الحق يعنى الاعتراف بالخطأ، وهذا قلما يقبله إنسان فى العادة أو يعترف به، ولأن الرجوع إلى الحق قد يجعل الآخرين ينظرون إلى العائد فى قراره على أنه ضعيف وغير قادر على المركز الذى يشغله، وقد يسهم فى إطلاق سهام النقد مثل الاتهام بالضعف والتردد وعدم الكفاءة، وهذا لا يتحمله إلا الكبار فى الهمم، والعظام فى النفوس، الذين يعلون على الضعف أمام النقد الباطل والوهن الشخصى ليراعوا الصالح العام، فى إظهار العدالة وسيادة الحق. والكبار لهم محطات فى حياتهم يُراجعون فيها أنفسهم ويصححون فيها مسارهم، حتى لا يسترسلون فى خطأ وقعوا فيه، أو هوى انساقوا إليه، فإذا كان هناك ثمة خطأ أو هوى عالجوه قبل أن يستفحل، فهم ليسوا كالصنف من الناس الذين يُحددون لأنفسهم قناعات لا يحيدون عنها، أو قرارات لا تقبل المراجعة والتصحيح، فحينئذ لن يسلموا فى قراراتهم من هوى مطغٍ، أو خطأ مهلك، ورحم الله الشافعى حين قال: قولى صحيح يحتمل الخطأ، وقول غيرى خطأ يحتمل الصواب. كما يجب أن نعلم أن الإنسان بشر، والبشر قد يجتهد ومهما كان اجتهاده للوصول إلى القرار الصحيح، فإن احتمالات الخطأ واردة، ولا بد من تداركها، ولن يكون هذا إلا بالاعتراف بالخطأ ابتداءً، وصغار النفوس لا يُفضلون استشارة من حولهم أو الاستئناس برأيهم حول قضية من القضايا، خشية أن يُظهر ذلك عدم كفاءتهم أو عجزهم عن اتخاذ القرارات أو لتكبر جبلت عليه نفوسهم. أما الكبار فيحرصون على الشورى، ويلتمسون فيها الخير والبركة، ولا مانع عندهم من العودة فى آرائهم متى رأوا الصواب فى غيرها. وقد يتصرف الواحد منا فى غضبه تصرفات فيها الكثير من الأخطاء، ولعله يندم عليها بعد هدوئه وزوال أسباب الغضب، والكبار لا يضيرهم أبدا أن يعملوا على إصلاح ما أفسدوه فى لحظات الغضب، ولا يُكابرون فى ذلك، بل ويُسارعون إلى الاعتذار إذا كان الأمر يستوجب الاعتذار، ويُصلحون من شأن ما أتلفوه إذا كان الأمر يستدعى الإصلاح، وقد امتدح النبى -صلى الله عليه وسلم- ذلك الرجل الذى غضبه بطىء متأخر، وفى الوقت نفسه سريع العودة إلى الجادة والصواب متى أفاق من غضبه، عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه "... ثُمَّ ذَكَرَ الْأَخْلَاقَ فَقَالَ يَكُونُ الرَّجُلُ سَرِيعَ الْغَضَبِ قَرِيبَ الْفَيْئَةِ فَهَذِهِ بِهَذِهِ وَيَكُونُ بَطِىءَ الْغَضَبِ بَطِىءَ الْفَيْئَةِ فَهَذِهِ بِهَذِهِ فَخَيْرُهُمْ بَطِىءُ الْغَضَبِ سَرِيعُ الْفَيْئَةِ وَشَرُّهُمْ سَرِيعُ الْغَضَبِ بَطِىءُ الْفَيْئَةِ قَالَ وَإِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ تَتَوَقَّدُ أَلَمْ تَرَوْا إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَجْلِسْ أَوْ قَالَ فَلْيَلْصَقْ بِالْأَرْضِ". لا يختلف اثنان على أن صحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هم خير الناس وأتقاهم "خير الناس قرنى ثم الثانى ثم الثالث ثم يجىء قوم لا خير فيهم"، ومع ذلك فإنهم لم يكونوا معصومين، ولم يدَّعوا العصمة لأنفسهم بل إنهم إذا أخطئوا سارعوا بالعودة والإنابة. وهكذا الكبار دائمًا فإنهم لا يُصرون على خطأ وقعوا فيه أبدًا، بل يُسارعون إلى الاعتراف به، وتصحيح الوضع القائم "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ" [آل عمران: 135]. والكبار إذا أصابهم ما يُصيب البشر من الخطأ والنسيان عادوا مسرعين "إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ" [الأعراف: 201]. وفى كتاب عمر لأبى موسى الأشعرى فى استقلال القضاء: ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه رأيك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق، فالحق أولى بأن يتبع لأن الحق قديم لا يبطله شىء ومراجعة الحق خير من التمادى فى الباطل. والله سبحانه وتعالى يُعلِّم عباده مراجعة أنفسهم، وتصحيح مسارهم فيُمهلهم عندما يُخطئون ولا يُعجل لهم بالعقوبة، وهى إشارة إلى ضرورة أن يراجع الإنسان نفسه أولا بأول، ولا يُطيل على نفسه الأمد فيقسو قلبه ويألف المعصية "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِىءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِىءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا". وما الإمهال إلا نوع من إعطاء الفرصة لمراجعة النفس، وتصحيح المسار، وتعديل الخطأ الواقع، بل إن الله تعالى يجعل مجرد الاعتراف بالذنب والتوبة عنه كفيلان بقبول توبة التائب، وهذا هو الرجوع إلى الحق بعينه جاء فى الحديث "فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ". والكبار يحاسبون أنفسهم على أقوالهم وأفعالهم، فإذا كانت خيرًا حمدوا الله، وإن كانت غير ذلك عَدَّلوا من أنفسهم وقوموها، ويُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أنه قَالَ: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا". والعودة إلى الله أحق من أى شىء، فإذا قصَّر العبد فى حق ربه فعليه بالمسارعة بالتوبة والعودة من جديد، والكبار هم الذين يُحدثون لكل ذنب توبة، ويجعلون دُبر كل عمل استغفار، فهم يستقبلون رسائل الله لهم ويفهمونها فيُسارعون بالاستجابة لندائه. ومن الرسائل: التى يرسلها الله لعباده حتى يعودوا "الابتلاء" قال تعالى: "وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [السجدة: 21]. ومن الرسائل: إظهار الفساد المترتب على أعمال العباد ليلفت نظرهم، ويُراجعوا أنفسهم "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [الروم: 41]. ومن الرسائل: إظهار الآيات البينات الواضحات الآية تلو الآية "وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِى أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [الزخرف: 48]. ومن الرسائل: إنزال العقوبة على أقوام استحقوا ذلك فيتعظ بهم من حولهم أو يكون ذلك حجة عليهم "وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [الأحقاف: 27]. ومن القواعد التى ينبغى الرجوع إليها ومعالجة الأخطاء بها ما يلى: القاعدة الأولى: (اللوم للمخطئ لا يأتى بخير غالبًا) تذكر أن اللوم لا يأتى بنتائج إيجابية فى الغالب فحاول أن تتجنبه. يقول أنس بن مالك رضى الله عنه: (أنه خدم الرسول صلى الله عليه وسلم عشر سنوات ما لامه على شىء قط) فاللوم مثل السهم القاتل ما إن ينطلق حتى ترده الريح على صاحبه فيؤذيه؛ ذلك أن اللوم يحطم كبرياء النفس ويكفيك أنه ليس فى الدنيا أحد يحب اللوم.. القاعدة الثانية: (أبعد الحاجز الضبابى عن عين المخطئ) المخطئ أحيانا لا يشعر أنه مخطئ، فكيف نوجه له لوما مباشرا وعتابا قاسيا وهو يرى أنه مصيب، إذن لا بد أن نزيل الغشاوة عن عينيه ليعلم أنه على خطأ، وفى قصة الشاب مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- درس فى ذلك. القاعدة الثالثة: (استخدام العبارات اللطيفة فى إصلاح الخطأ) كلنا ندرك أنه من البيان سحر فلماذا لا نستخدم هذا السحر الحلال فى معالجة الأخطاء.. فمثلا حينما نقول للمخطئ (لو فعلت كذا لكان أفضل)، (ما رأيك لو تفعل كذا..)، (أنا اقترح أن تفعل كذا.. ما وجهة نظرك). القاعدة الرابعة: (ترك الجدال أكثر إقناعا) تجنب الجدال فى معالجة الأخطاء فهى أكثر وأعمق أثرا من الخطأ نفسه وتذكر.. أنك بالجدال قد تخسر.. لأن المخطئ قد يربط الخطأ بكرامته فيدافع عن الخطاء بكرامته فيجد فى الجدال متسعا ويصعب عليه الرجوع عن الخطأ فلا نغلق عليه الأبواب ولنجعلها مفتوحة ليسهل عليه الرجوع عن الخطأ. القاعدة الخامسة: (ضع نفسك موضع المخطئ ثم ابحث عن الحل) حاول أن تضع نفسك موضع المخطئ وفكر من وجهة نظره وفكر فى الخيارات الممكنة التى ممكن أن يتقبلها فاختر منها ما يناسبه. القاعدة السادسة: (ما كان الرفق فى شىء إلا زانه..) بالرفق نكسب.. ونصلح الخطأ.. ونحافظ على كرامة المخطئ.. وكلنا يذكر قصة الأعرابى الذى بال فى المسجد كيف عالجها النبى -صلى الله عليه وسلم- بالرفق.. حتى علم الأعرابى أنه على خطأ. القاعدة السابعة: (دع الآخرين يتوصلون لفكرتك..) عندما يخطئ الإنسان فقد يكون من المناسب فى تصحيح الخطأ أن تجعله يكتشف الخطأ بنفسه. ثم تجعله يكتشف الحل بنفسه، والإنسان عندما يكتشف الخطأ ثم يكتشف الحل والصواب فلا شك أنه يكون أكثر حماسا لأنه يشعر أن الفكرة فكرته هو. القاعدة الثامنة: (عندما تنتقد أذكر جوانب الصواب) حتى يتقبل الآخرون نقدك المهذب وتصحيحك بالخطأ أشعرهم بالإنصاف خلال نقدك.. انظر كيف كان الرسول ينتقد ويظهر جوانب الصواب.. قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لزياد.. ثكلتك أمك يا زياد إنى كنت لأعدك من فقهاء المدينة.. فالإنسان قد يخطئ ولكن قد يكون فى عمله نسبة من الصحة لماذا نغفلها.. القاعدة التاسعة: (لا تفتش عن الأخطاء الخفية..) حاول أن تصحح الأخطاء الظاهرة ولا تفتش عن الأخطاء الخفية؛ لأنك بذلك تفسد القلوب.. لأن الله سبحانه وتعالى نهى عن تتبع عورات المسلمين. القاعدة العاشرة: (استفسر عن الخطأ مع إحسان الظن) عندما يبلغك خطأ عن إنسان فتثبت منه واستفسر عنه مع حسن الظن به فأنت بذلك تشعره بالاحترام والتقدير كما يشعر هو بالخجل وأن هذا الخطأ لا يليق بمثله.. كأن تقول وصلنى أنك فعلت كذا ولا أظنه يصدر منك. القاعدة الحادية عشرة: (امدح قليل الصواب يكثر فى الممدوح الصواب) مثلا عندما تربى ابنك ليكون كاتبًا مجيدًا فدربه على الكتابة وأثن عليه واذكر جوانب الصواب فإنه سيستمر حتمًا. القاعدة الثانية عشرة: (تذكر أن الكلمة القاسية فى العتاب لها كلمة طيبة مرادفة تؤدى المعنى نفسه). عند الصينيين مثل يقول.. "نقطة من عسل تصيد ما لا يصيد برميل من العلقم".. ولنعلم أن الكلمة الطيبة تؤثر.. والكلام القاسى لا يطيقه الناس. القاعدة الثالثة عشرة: (اجعل الخطأ هينا ويسيرا وابن الثقة فى النفس لإصلاحه) الاعتدال سنة فى الكون أجمع، وحين يقع الخطأ فليس ذلك مبررًا فى المبالغة فى تصوير حجمه. القاعدة الرابعة عشرة: (تذكر أن الناس يتعاملون بعواطفهم أكثر من عقولهم). القاعدة الخامسة عشرة: (احرص على أن تصلح الخطأ بنفسك مهما تحملت فى ذلك). من ذلك ما ورد عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رجلا استفتاه فى مسألة فأفتاه فلما ولى الرجل تنبه أبو هريرة إلى أنه أخطأ فذهب ليتدارك الرجل فلم يستطع فنادى فى السوق أن أبا هريرة أفتى فى مسألة كذا بكذا وأنه أخطأ فى ذلك. فانظر أيدك الله كيف ألغى أبو هريرة الحواجز الوهمية التى أغلقت الأبواب على بعض الناس وصدته عن الرجوع إلى الحق، ورحم الله أولئك الأفذاذ الذين كانوا أسرع الناس فى الرجوع إلى الحق عند تبينه.