تعنى الاستقامة الاعتدال والاستواء، وتجنب الانحراف والزيغ، ولزوم الطاعة لله عز وجل، ولما كان هذا الأمر ليس بيسير إلا على مَن يسره الله عليه؛ كانت الاستقامة فى احتياج دائم للتذكير، والمجاهدة، والمجالدة، لذلك فإن المسلم يطلب من الله فى كل ركعة من كل صلاة، سبع عشرة مرة على الأقل فى يومه وليلته: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، ذلك أن الشيطان حينما طرد من الجنة: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}. ولما كانت طبيعة الإنسان تقتضى التقصير أحيانا أو الزيغ والانحراف عن الطريق المستقيم أحيانا أخرى؛، فقد أرشده الله إلى ما يعيده لذلك الطريق قائلا: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}، فطالما أنه لا بد من تقصير ما فى درجة الاستقامة؛ فإن ذلك التقصير يجبر بالاستغفار، ذلك الذى يقتضى التوبة ويجلب المغفرة؛ فيعيد المرء إلى الاستقامة مرة أخرى، ولمزيد من توضيح معالم ذلك الطريق قال -صلى الله عليه وسلم-: ((اتقِ الله حيثما كنت، وأَتْبِعِ السيئة الحسنة تمحها)). إن مؤشرات الصحة النفسية ترتفع أو تنخفض حسب مدى استقامة الفرد، وتتحقق استقامته حسب مدى اتساق أقواله وأفعاله مع الشرع؛ فإن الأقوال والأفعال فى علاقتها بالاستقامة تتضح من قناعات خمسة. أولها: كل قول أو عمل يؤدى إلى الراحة النفسية ويتسق مع شرع الله ينتمى إلى الاستقامة. ثانيها: كل قول أو عمل يؤدى إلى التعب الجسمى، ولكنه يتسق مع شرع الله فهو ينتمى إلى المجاهدة التى تنتمى بدورها إلى الاستقامة. ثالثها: كل قول أو عمل يتعارض مع شرع الله لا يمكن أن ينتمى إلى الاستقامة بحال. رابعها: لا يوجد فعل أو شىء يستقيم مع شرع الله ويؤدى إلى التعب النفسى. خامسها: لا يوجد فعل أو شىء يتعارض مع شرع الله ويؤدى إلى الراحة النفسية. إن بعض الناس يجهل أسباب السعادة الحقيقية، وبعضهم يتجاهلها خصوصا إذا كانت أسبابها الحقة تكمن فى الاستقامة على مراد الله، والخضوع لأوامره، وقول ما يرضيه، وفعل ما يقرب المرء إليه، أو إذا كان لديه شىء من الكِبر يمنعه من الاستقامة، فلا يستطيع قول ما يرضى الله أو فعل ما يقربه منه، أو كان لا يريد الاستقامة أصلا، ولا يبغى إليها طريقا. فإذا ناقشت مع ابنك هذه العلاقة الوطيدة بين الصحة النفسية والاستقامة؛ أو حاولت أن ترسخ لديه القناعات العقلية سالفة الذكر التى تشرح هذه العلاقة، أو أردت أن توضح له الأثر النفسى الناتج عنها؛ فناقش معه أولا الفائدة الشخصية والمتعة الدنيوية والسعادة الآجلة فى الدنيا قبل الآخرة؛ فإن أجيال اليوم تهمها كثيرا مصلحتها الشخصية، والإفادة المادية، العاجلة منها قبل الآجلة، أمّا لو فهم أنك تريد أن تدفعه ليكون متدينا فإن بعضهم سوف يراوغك كما يروغ الثعلب، فإن الشيطان حينما يتحكم فى تفكير أحدهم يلقى على فمه كلاما قد يهلكه. ولا بد أن توضح لأبنائك أنه لا أحد يعصى الله ويسعد، أو ينحرف ويهنأ، وأن الذين يمارسون المعاصى ويظنون أنهم سعداء هم واهمون، فتلك سعادة مؤقتة لا تلبث أن تزول، وذلك شعور زائف لا يلبث أن ينتهى، وأن الواقع الفعلى يؤكد دور استقامة الفرد واتساق أقواله وأفعاله فى شعوره بالسعادة، فكم من الناس من تتوفر له جميع الأسباب المادية للراحة النفسية والسعادة، ولكنهم لا يشعرون بشىء منها لسبب بسيط، وهو أنهم لا يستقيمون على الأقوال والأفعال التى ترضى الله سبحانه، وكم من الناس من لا تتوفر له أدنى أسباب السعادة المادية والدنيوية ولكنه يحيا حياة طيبة، ويعيش سعيدا كريما؛ لأنه يستقيم على ما يرضى الله سبحانه، فمَن أراد أن يحقق لنفسه الراحة النفسية والسعادة الحقة فالطريق ينحصر فقط فى الاستقامة على ما يرضى الله سبحانه ويتسق مع شرعه. وتناقش معهم كيف أن الاستقامة وقاية، فيها الحفاظ على الصحة، فالطاعة والصحة قرينان لصيقان، وصديقان ودودان، ف"المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"، أما الانحراف والمرض فهما صِنوان، يسقَى كلاهما بماء المعصية، ويؤدى كلاهما إلى أمراض القلوب: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا}، وبعض الأمراض النفسية لا تعرف طريقها إلى الفرد إلا نتيجة الانحراف، أما الأمراض الاجتماعية فتنتشر نتيجة البعد عن الاستقامة، والاستقامة تُصلح البيوت والعلاقات والأزواج والزوجات، فكم انهارت من بيوت بسبب علاقات سيئة، أو عادات منحرفة، أو سلوكيات شاذة، وبالاستقامة يصلح الله الأنساب، ويحفظها من الاختلاط، وبها يحفظ الأموال، ويحفظ العقول، ويحفظ الأنفس، ويحفظ الأعراض، ويحفظ الدين. فالاستقامة وقاية من أدواء الأفراد والأمم والشعوب، وفى الوقت نفسه هى علاج لها. ثم تناقش معهم ضرورة أن يعزم الفرد على الاستقامة، وأن تصبح رغبته فيها صادقة، وأن تكون له غاية مبتغاة، وضالة منشودة، ثم يمارس دلائلها، فلكل طريق دليل، ودليل الاستقامة حسن العمل والاستمرار عليه والانتظام فيه، انطلاقا من حديث: ((أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل))، فأحب الأعمال هى الحسنة منها، وهى أفضلها، وهى أقربها للخير، ثم تأتى بعد حسن العمل ديمومته، والديمومة تعنى الاستمرار والاستقامة عليه، فيصبح الوقت سببا فى الزيادة، أما كلمة: ((وإن قل)) فتعنى الانتظام، فالانتظام والاستمرار على أى عمل يحوله إلى عادة، فتصبح عادة الفرد هى الاستقامة على كل عمل طيب، ثم يستقيم على ممارسة مظاهر تلك الاستقامة. فليكن الحديث السالف حادى المربى على طريق التربية، ومعلما من معالمه، وعادة من العادات التى يعوّد أبناءه عليها، وعُدة أساسية ينبغى التسلح بها، وأن يقنع أبناءه أن استقامة الفرد تنبع من استقامة قلبه، ولن يستقيم قلب امرئ حتى يستقيم لسانه، فالقلب يهوى ويتمنى؛ والجسد يصدّق ذلك أو يكذبه، وإن الناس إذا استقاموا على أمر الله أصلح الله أحوالهم، وأحوال بلادهم، حتى أحوال الحيوان والنبات لديهم: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا}، فإذا صلحوا أصلح لهم أولادهم وذريتهم وأزواجهم، بل أصلح الله لهم البيئة من حولهم، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله لِيُصْلِح بالرجل الصالح ولدَه، وولد ولده، ودويرات حوله)). إن طريق الاستقامة صعب ولكنه ممكن، ومتعب ولكنه ممتع، وطويل ولكنه جميل، وله متطلباته التى لا يكون إلا بها، وله لوازمه التى تلزمك فلا تكون مستقيما إلا بها، وعليك تبعاته التى ستتحمل تكاليفها فى البداية، ثم ستستمتع بها وبثمراتها فى النهاية، ولكى تحقق ذلك لا بد أن تحوز الثقة فى نفسك، فإن وثقت فيها توفرت فيك الكفاءة، وإن استقمت فلك السلامة، وإن انتظمت فلك الأمان، وإن استمررت فقد ملكت معالم الرجولة، وإن صبرت فداخلك الإيمان.