كثيرة هى مواقف الرحمة والعطف، والتواضع والصدق، والتسامح والصبر فى حياة النبى الخاتم (صلى الله عليه وسلم)؛ ولِمَ لا؟! وهو الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير، ختم الله به الدين، وأتم به النعمة، وأرسله للناس كافة بالبشرى ودين الحق.. ونشير هنا -فى ذكرى مولده (صلى الله عليه وسلم)؛ إلى بعض مواقفه التى نحن فى أمسّ الحاجة إلى الامتثال بها، وأخذ الدروس والعبر منها: كان (صلى الله عليه وسلم)؛ كثير الحلم والاحتمال، لم يزد مع كثرة الأذى إلا صبرًا، وعلى إسراف الجاهل إلا حلمًا، وكان أبعد الناس غضبًا، وأسرعهم رضًا، وما انتقم لنفسه إلا أن تُنتهك حرمة الله فينتقم لله بها.. سألته عائشة يومًا: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: «لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل بن كُلال، فلم يجبنى إلى ما أردت، فانطلقت -وأنا مهموم- على وجهى، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسى فإذا بسحابة قد أظلتنى، فنظرت فإذا فيها جبريل، فنادانى فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فنادانى ملك الجبال، فسلّم علىّ ثم قال: يا محمد، ذلك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين -جبلى مكة، أبا قبيس والذى يقابله- قلت: بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئًا». وكان (صلى الله عليه وسلم)؛ أشد الناس تواضعًا، وأبعدهم عن الكبر، يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس فى أصحابه كأحدهم.. لما دخل مكة يوم الفتح، كان واضعًا رأسه حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل، مردفًا أسامة بن زيد، وهو ابن مولاه، ولم يردف أحدًا من أبناء بنى هاشم.. وقد أعلن العفو العام عن أهل مكة، رغم أنواع الأذى التى ألحقوها به وبدعوته، بل اعتبر يوم الفتح يوم رحمة لأهل هذا البلد الحرام، وتعظيم لكعبتها المشرفة، ولما اجتمع من آذوه بالأمس وحاولوا قتله ينتظرون حكمه فيهم قال (صلى الله عليه وسلم)؛: «ما تظنون أنى فاعل بكم»؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال: «لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم». وكان أعدل الناس، وأعفهم، وأصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة، وكان يسمى قبل نبوته «الأمين»، ويتحاكم إليه فى الجاهلية قبل الإسلام.. عن عائشة أن قريشًا أهمهم المرأة المخزومية التى سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله؟ ومن يجترئ عليه إلا أسامة؟ فكلمه أسامة فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم)؛: «أتشفع فى حد من حدود الله»؟! ثم خطب فقال: «إنما أهلك من كان قبلكم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها». فأمر النبى بقطع يدها. وكان أوفى الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم، وأعظمهم شفقة ورأفة ورحمة، وأبسطهم خلقًا، خصوصًا مع أهله.. فكان يحبهن ويتطيب لهن ويداعبهن، ويحتمل ثوراتهن وصخبهن، ويواسيهن، ويقدر مشاعرهن، ولم يرد أنه ضرب زوجة له أبدًا، ولم يستخدم -معهن أو مع غيرهن- لفظًا جارحًا أبدًا، وكان يضفى جو المرح عليهن جميعًا، رضى الله عنهن، وكان يساعدهن فى أعباء بيوتهن؛ فكان يحلب الشاة، ويخصف النعل، ويرقِّع الثوب، ويقم البيت، ويحمل بضاعته من السوق، وكان يروِّح عنهن ويسامرهن، ويتغافل عن خطأ إحداهن، ولا تتغير مشاعره نحوهن رغم تغير أحوالهن، بل كان يرفع اللقمة إلى فم إحداهن، كما كان أكثر الناس وفاءً لهن بعد موتهن. وكان هكذا (صلى الله عليه وسلم)؛ مع سائر نساء المسلمين، فكان يوصى أزواجهن بهن خيرًا، ويراعى مشاعرهن، ويعطى لكل منهن الحق فى رفض من تشاء وقبول من تشاء من الأزواج، وكان يساويهن بالرجال فى الحقوق والواجبات، وكان يعد الإحسان إليهن من كمال الإيمان، وكان يحذر الرجال من ظلمهن والإساءة إليهن، وكان يرحمهن ويشفق عليهن، ويقدر مسئولياتهن تجاه المجتمع، مع حرصه على عفافهن ووقارهن وضرورة حمايتهن من لصوص النظر وسارقى الأعراض، وكان يدعو إلى إكرامهن والتوسعة عليهن ومعاملتهن بالحسنى. وكان من دعائه (صلى الله عليه وسلم)؛: «يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك»، «اللهم اغفر لى خطيئتى وجهلى، وإسرافى فى أمرى»، «اللهم إنى أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء»، «اللهم إنى أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لى وترحمنى..»، «اللهم احفظنى بالإسلام قائمًا، واحفظنى بالإسلام قاعدًا، واحفظنى بالإسلام راقدًا، ولا تشمت بى عدوّاً ولا حاسدًا..»، «اللهم ألهمنى رشدى، وأعذنى من شر نفسى»، «اللهم ألِّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجِّنا من الظلمات إلى النور، وجنِّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن..».. آمين. اللهم صلّ على أرحم نبى، واجزه عنا وعن الإسلام خيرًا يا رب العالمين. ----------------------- عامر شماخ [email protected]