* 33 ألف قضية حسبة فى عام 2012 فقط!! * يضيّق على الأم الوصية ويعطل نمو أموال اليتامى * خبراء: الأوصياء يعانون يوميا بسبب الروتين وتعقيدات الإجراءات * إحدى الأمهات: نستدين للإنفاق على الأيتام بسبب تعقيدات صرف الأموال * أحمد سليم: عدد وكلاء النيابة لا يكفى لنظر قضايا "الحسبة" * د محمد شحاتة: الحسبى يضيِّع على الأطفال اليتامى فرص استثمار أموالهم * د. هشام منصان: ندرة الخبراء سبب تعطيل إجراءات صرف الأموال * نهاد أبو القمصان: يجب وضع تشريعات جديدة لحل مشكلات الوصاية بعد وفاة الآباء يشعر الأبناء القصر بمرارة اليتم، وقسوة ظروف الحياة، وارتفاع تكاليف المعيشة، كما أن الأمهات الأرامل قد يضطررن إلى مد أيديهن من أجل تدبير نفقات الحياة اليومية لأطفالهن، وبجانب كل هذه المعاناة يعيش ملايين الأطفال القُصر وأمهاتهم معاناة أخرى أشد قسوة مع المجلس الحسبى الذى يتولى الوصاية على أموالهم والإنفاق عليهم بعد وفاة الأب. المثير للدهشة أن الأطفال القصر يتحولون لدى المجلس الحسبى من أطفال أيتام لهم مطالب واحتياجات إلى مجرد أرقام قضايا تنتظر دورها، مهما كانت ظروف واحتياجات هؤلاء الأطفال، وتتزايد مشكلات الأطفال الأيتام مع المجلس سنويا بشكل مطرد، حيث بلغ عددها عام 2012 فقط (33 ألف قضية). تتعدد شكوى الأمهات من المجلس الحسبى ما بين بطء الإجراءات وتعقيدها وسوء إدارته لأموال القصر؛ حيث يقوم المجلس بوضع الأموال فى أدنى شريحة بالبنوك وبأقل عائد، وعلى الرغم من ذلك تحرم الوصية والقصر من العائد الشهرى لهذه الأموال، على الرغم من حاجتهم إليه تحت دعوة استثمارها للقصر، وهو ما يجعل البنك هو المستفيد الوحيد من الأموال طوال مدة الوصاية... "الحرية والعدالة".. تحاول من خلال هذا التحقيق رصد المشكلات التى تعانى منها الأمهات والأطفال القصر مع المجلس الحسبى. فى البداية، نوضح أن فكرة المجلس الحسبى قديمة وترجع إلى عام 1869 حينما رأت الدولة وقتها ضبط أنفاق "المسرفين" من الأشخاص غير البالغين، فأنشات مجالس حسبية مهمتها التحكم فى التركات. والمجلس الحسبى هو أحد الهيئات القضائية التابعة لمحكمة الأسرة، وينظمه قانون الولاية على المال وهو القانون رقم 47 لسنة 2004 الذى ينص على أن "يخضع فاقدو الأهلية والقصر للوصاية، ولا يجوز للواصى التصرف فى أموالهم أو إدارتها إلا بإذن من المحكمة، ووفقا للقواعد المفروضة، ويخرج من نطاق الولاية ما يئول للوصى من أموال بطريق التبرع". ويتكون المجلس الحسبى من 5 أشخاص؛ هم النائب العام وهو رئيس المجلس بصفته ورئيس النيابة الحسبية باعتبارها إحدى النيابات التابعة للنيابة العامة، ثم المحامى العام الأول، ورئيس محكمة الاستئناف، ثم رئيس النيابة العامة، وأخيرا وكيل النيابة الحسبية، ويختص المجلس بالإشراف على أموال القصر وفاقدى الأهلية. تعقيدات روتينية! فى البداية، ترى "أم حسام" الوصية على اثنين من أبنائها أن المجلس الحسبى يبالغ فى أداء دور الوصى والرقيب إلى حد التقتير على القصر بحجة الحفاظ على أموالهم دون مراعاة لضغوط الحياة. وأضافت أن زوجها ترك مبلغ 20 ألف جنيه وبيتا من طابقين؛ الطابق الثانى لم يكتمل بناؤه، وعندما أرادت استكمال بنائه بالاستعانة بالأموال الموجودة فى المجلس الحسبى وجدت من التعقيدات الروتينية ما استغرق عامين دون مجيب، حيث طلب منها انتظار الخبير لتقييم حجم الأموال المطلوبة بشكل محدد وتحديد تكلفة البناء. وأشارت إلى أنه نظرا لأن الخبير مشغول بقضايا متعددة تطول مدة انتظاره شهورا، وهو ما تزيد معه أسعار مواد البناء والتسليح، مما يضاعف الأعباء المادية على الأسرة، لافتة إلى أن هذه المشكلة هى مجرد حلقة من رحلة طويلة من المعاناة التى تتكبدها شهريا من أجل الحصول على أموال لعلاج الأبناء أو مصاريف المدارس؛ مما يضطرها إلى الاستدانة فى بعض الأحيان للوفاء بمتطلبات الحياة الملحة فى ظل تقاعس "الحسبى" عن تلبيتها. أما "نعمة" فقد انتهت مدة الوصايا على ابنها الأكبر، الذى بلغ 21 عاما، لكنها فوجئت بأن المبلغ المخصص له لم يزد طوال هذه المدة إلا بنسبة قليلة، فقد حصل على 7 آلاف جنيه من أصل خمسة، وكانت تتوقع أن يحسن المجلس تشغيل أموال اليتامى بما يضمن لهم حياة كريمة، وهو ما جعلها لا تطلب من "الحسبى" أموالا طوال هذه المدة إلا فى أصعب الظروف معتمدة على مرتبها. وقالت: إنها عندما سألت المحامين أكدوا لها أن المجلس لا يهتم بتشغيل الأموال، وإنما يكتفى بمجرد وضعها فى وديعة بأقل عائد ممكن، معتبرة أن ذلك الأمر فيه ظلم كبير لجميع القصر، خاصة أن المجلس يتحكم فى أمور القصر كافة، ومن الممكن أن يضيع عليه فرصا كثيرة لاستثمار أمواله، مثل شراء قطعة أرض جديدة أو فتح مشروع للتكسب منه من خلال إجراءاته المعقدة. 150 قضية يوميا! أما المستشار أحمد سليم -رئيس محكمة الأسرة بمحافظة بورسعيد- فيقول: إن حجم ما يتكبده الواصى من معاناة داخل أروقة المحاكم للحصول على بعض الأموال للقصر، يرجع إلى قلة عدد القضاة ووكلاء النيابة فى مقابل زيادة أعداد القضايا الخاصة بأمور الولاية على المال، التى لا تقتصر على القاصر فحسب، وإنما تكون للأشخاص ناقصى الأهلية والغائبين والمحجور عليهم وفئات أخرى عديدة. وأوضح سليم أن قضايا الوصاية يتجاوز عددها عشرات الآلاف سنويا فى مقابل عدد قليل من القضاة، حيث يتعدى عدد القضايا فى اليوم الواحد 150 قضية، وهو ما يشكل عبئا كبيرا على القاضى؛ لأن كل طلب يحتاج إلى دراسة مستفيضة لإصدار أحكام موضوعية لا يحدث من ورائها إهدار لحقوق القصر، مشيرا إلى أنه فى ظل هذا الزخم فى أعداد القضايا يتم الاستعانة بالموظفين والإداريين فى عمل الإجراءات المختلفة، وهو حل ليس مثاليا للمشكلة، ولكنه اضطرارى. وأضاف أن قضايا الولاية على أموال القصر من القضايا التى لها خصوصية مختلفة؛ نظرا لطول المدة التى تمكث فيها بالمحاكم، التى تمتد من عامين إلى 21 سنة تتعدد خلالها المطالب، التى بمقتضاها تتعدد الإجراءت، ويشوبها الروتين بما يعطل مصالح القصر، وهو ما يكون سببا فى تذمر بعضهم. وأشار رئيس محكمة الأسرة إلى أن القضاء على هذه المشكلات يتطلب زيادة أعداد وكلاء النيابة بكفاءات وتخصصات تتناسب مع حجم وأهمية هذه القضايا، وكذلك زيادة أعداد نيابات الأسرة، التى لا توجد على مستوى الجمهورية إلا فى عدد قليل من المحافظات. منظومة سلبية من جانبه، يرى الدكتور محمد شحاتة -أستاذ القانون الجنائى بجامعة الإسكندرية- أن نظام العمل داخل المجلس الحسبى لا يختلف فى طبيعته الإجرائية والبيروقراطية عن أى هيئة قضائية أخرى، رغم طبيعته المختلفة باعتباره مسئولا عن فئة مجتمعية تحتاج إلى تعامل مختلف فى تناول قضاياها؛ لأن جميعهم أيتام وأرامل، ولديهم احتياجات ملحة تحتاج إلى قدر كبير من المرونة والتيسير. ويضيف: على سبيل المثال لو ذهبت سيدة تطلب الحصول على مبلغ مالى لعلاج لأبنائها؛ فإن المجلس يطلب منها أن تأتى بما يثبت أن الطفل مريض، وكذلك قيمة المبلغ المحدد لشراء الدواء، وهذا يعنى أنه يجب عليها أن تقوم أولا بالكشف على الطفل وشراء الدواء حتى ولو كان ذلك بالاستدانة، وذلك حتى تأخذ الأوراق التى تثبت ذلك ليقوم المجلس بصرف شيك بالأموال المطلوبة، وهى عادة مبالغ يستغرق صرفها عدة أيام إن لم تكن أسابيع!! وعن آلية تشغيل المجلس لأموال اليتامى، يقول شحاتة: إنه لا توجد آلية ولكن ما يتم هو هو وضع تلك الأموال التى تركها الأب فى وديعة بأحد البنوك، وتكون بفائدة أقل من الودائع الأخرى، وهى 7% فقط، فى حين أن فوائد الودائع الأخرى تتجاوز 10% وقد تصل فى بعض الأحيان إلى 13%". ويطالب بإصلاح الأوضاع داخل المجلس الحسبى، موضحا أن هذا يتطلب وجود تخصصات داخل السلك القضائى، فيكون هناك وكلاء نيابة مهمتهم الأمور الجنائية وآخرون مهمتهم الأحوال الشخصية؛ حيث لا يليق أن وكيل النيابة نفسه الذى يتعامل مع القصر يكون هو نفسه مَن يتعامل مع البلطجية والمجرمين، ولكن يجب أن يكون لديه من الثقافة الاجتماعية والنفسية ما يؤهله للتعامل مع قضايا الأحوال الشخصية، لافتا إلى أن هذه التخصصات تسهم بشكل كبير فى تيسير الحالة الروتينية التى لا مبرر لها. أزمة الخبراء ويقول الدكتور هشام منصان –المحامى-: إن قضايا الوصايا على الأموال من أكثر القضايا التى تعترضها مشكلات وعقبات كبيرة جدا، وإن أهمها هو هيئة الخبراء؛ حيث إن أغلب ما تتقدم به الوصية من طلبات يحيله وكيل النيابة إلى الخبراء لتقييم الطلب على حسب طبيعة كل حالة، وهو ما يستغرق وقتا طويلا للغاية؛ نظرا لانشغال الخبراء بالكثير من القضايا. وأضاف منصان أنه لا توجد سوى إدارة واحدة للخبراء تابعة لوزارة العدل، وهى منوط بها العمل فى جميع القضايا وليس قضايا القُصر فقط، ويكون كل خبير فيها مكلفا بتقييم آلاف القضايا، ومن ثم عندما يأتى الدور على قضايا القصر تمضى شهور عديدة قد تصل إلى عام ونصف أو عامين، وهو ما يضيع على القصر فرصا متعددة أو يعطل أمورا مستعجلة، وتزداد المشكلة تعقيدا فى حالة إرجاع القاضى القضية إلى الخبير بما يعنى الانتظار إلى أجل غير مسمى. وأشار إلى أن هناك مشكلة أخرى تتعلق بضعف كفاءة الخبراء أنفسهم؛ فهناك خبراء غير مؤهلين لبحث كل الملفات وعمل التقييم الموضوعى للقضية، مما يضر بالمتقاضين، ومنهم القصر، فضلا عن أن الخبراء لديهم مشكلات مالية متعلقة بضعف المرتبات تجعلهم غير جادين فى عملهم بالصورة المطلوبة. أعباء نفسية! من جهتها، أشارت نهاد أبو القمصان -رئيس المركز المصرى لحقوق المرأة- إلى أن حجم ما تعانيه المرأة الوصية على القصر من مشكلات؛ بسبب تحكم المجلس الحسبى فى كل قرش تقوم بإنفاقه وإعطائه لها بالكاد، يفوق حجم ما تعانيه المطلقة وغيرها من الذين يعانين من سوء الأوضاع. وأضافت أن بعض الإجراءات التعقيدية التى تتعرض لها المرأة للحصول على بضعة جنيهات كمصاريف المدارس أو شراء أى مستلزمات ضرورية للأبناء، تزيد من أعبائها النفسية بجانب أعبائها الحياتية، وشعورها بأنها غير أمينة على أموال أبنائها، وهو أسوأ حالة نفسية تواجها المرأة الوصية. وأوضحت أبو القمصان أن آلية تعامل المجلس الحسبى مع أموال القصر غير مجدية ولا تحقق منفعة كبيرة بالنسبة لهم، على الرغم من أن المتاجرة بأموال اليتامى من الأمور التى يحث عليها الإسلام والسنة النبوية الشريفة؛ استنادا إلى قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "تاجروا فى أموال اليتامى كى لا تأكلها الصدقة". وطالبت بضرورة وضع تشريعات جديدة تسهّل وتمكّن المرأة من الحصول على حقوق أبنائها، معتبرة أن الحلول الجزئية لهذه المشكلة لم تعد مجدية، بل تزيد من تعقيد الأزمة.