لقد وضع الإسلام أساس المساواة بين البشر قبل أن يتشدق بها المتشدقون من أصحاب الشعارات الزائفة والمبادئ الخاوية من المضمون، وقبل أن تقام المؤسسات والهيئات العالمية والمحلية والإقليمية للدفاع عن حقوق الإنسان، بل قبل أن تعقد مؤتمرات لهذا الغرض النبيل لكى ينال الأسود حقه كما يحصل عليه الأبيض، أقول: قبل هؤلاء جميعا بأربعة عشر قرنا من الزمان كانت هناك وثيقة تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين فى حجة الوداع وهو يقول "اللهم بلغت اللهم فاشهد" تضمنت هذه المعانى وأكثر. والناظر البصير فى أيامنا هذه يرى كثيرا من الأمم تخضع لنظام الطبقات، وتفرق بين الأفراد على غير أساس إلا أساس التوارث والعصبية الباطلة أو القوة الغاشمة وجميعهم يردد مقولة بنى إسرائيل "ليس علينا فى الأميين سبيل". وجاء الإسلام الذى يطلق عليه هؤلاء فى هذه الأيام "الرجعية" و"التطرف" بل "الإرهاب" دون تفريق بين مفرِط ومفرّط ولا بين معتدل ومتشدد، جاء بدستوره العادل القويم، فصدع هذه النظم وقضى على تلك الفوارق، وجمع بين أبى بكر القرشى، وبلال الحبشى، وسلمان الفارسى، وصهيب الرومى، وجعل بينهم مقياسا ثابتا يتفاضلون به لا دخل للون ولا للجنس، ولا البلد ولا المال ولا الولد اللهم إلا العمل الصالح الذى يحقق التقوى، يقول مقاتل رضى الله عنه: لما كان فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا بأن يعلو الكعبة ويصعد ظهرها ويؤذن، فلما أذن قال عتاب بن أسيد بن أبى العيص: الحمد لله الذى قبض أبى حتى لا يرى هذا اليوم، وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا؟ وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئا يغيره، وقال أبو سفيان: إنى لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء، فإذا السماء تهتز وإذا بجبريل يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قالوا، فدعاهم صلى الله عليه وسلم عما قالوا فأقروا فأنزل الله ميزان التفاضل بين البشر ليصبح ميزانا ومقياسا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]. وتصفح التاريخ لتربط بين الأمس البعيد واليوم القريب لترى أمريكا التى يشار إليها بالبنان اليوم والتى تدعى أنها الراعى لحقوق الإنسان، كيف كان يكتب على أبواب مطاعمها ودور اللهو فيها وجميع الأماكن التى يرتادها بشر "ممنوع دخول الكلاب والسود" وسلهم: متى تحررت المرأة عندهم من القيود والأغلال؟! ومتى كان لها ذمة مالية منفصلة عن زوجها؟! وكم وكم وكم؟! وسل الإنجليزى والألمانى والفرنسى الذى لم يطق حجاب تلميذة: من علمهم العلوم والفنون والآداب؟ ومن أدخل فى بيوتهم دورات المياه ليتطهروا؟! وعد إلى التاريخ البعيد تجد نظام الطبقات كان معمولا به فى الأمة اليونانية فى أوج حضارتها وهى أمة الفلسفة والنور –كما يدعون– وفى الأمة الرومانية وهى أمة القوانين وتقرير الحقوق كما كانوا يطلقون عليها، وفى الأمة الفارسية وهى أمة الحضارة القديمة العريقة -كما يزعمون- فلما انتصر المسلمون على هؤلاء جميعا ما سلبوهم أموالهم، ولا قتلوا أبناءهم، ولا سرقوا ثرواتهم، ولا اعتدوا على أعراض نسائهم، بل قالوا لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء. وهذه المساواة تنتظم الناس جميعا، فهى بمثابة إعلان للوحدة الإنسانية، روى الإمام أحمد بسنده عن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له: "انتظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى الله". فيا من تتشدقون بالحرية والمساواة بين البشر: ليست المساواة فى الرذائل والكبائر التى يرتكبها البعض ويريد أن يفرضها على غيره من أصحاب المبادئ السامية والقيم العالية من باب {ودُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89]، ويا مسلمون يا من وقفتم على عرفات ورأيتم أشكال البشر وألوانهم ولغاتهم وجنسياتهم وتحقق بين الجميع "أخوة الإسلام"، ورأيتم بأعينكم المساواة الفعلية فى الشكل والمظهر.. تعالوا جميعا إلى كلمة سواء وادعوا عشيرتكم وأهليكم وحكامكم إلى العودة إلى هذه المبادئ السامية الربانية والفظوا الدعوات الهدامة من العولمة التى أقيمت لها مؤتمرات بكين ونيويورك ولبنان ومصر ليسودوا هم ويتخلف المسلمون، فهل من عودة إلى شريعة الله المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله علبه وسلم ليعود للمسلمين مجدهم وللناس جميعا حقوقهم وتبقى {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] هى الميزان؟!! هذا هو المقياس الذى وضعه المولى للبشرية لتتعرف على المصلح من المفسد، فليلتزم المسلم بمنهج الله فى تقييم الرجال والمناهج التى يدعون إليها ويتضح الفرق بين من يعجبك قوله فى الحياة الدنيا ويشهد الله على ما فى قلبه وهو ألد الخصام، ومن يشرون أنفسهم ابتغاء مرضاة الله ويلتزمون بمنهجه حتى ولو أزهق أهل الباطل أرواحهم وهو يقول "اقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة الدنيا". منهجنا بعيد عن آراء العقول الضالة: إن الافتراق بين دعاة الإسلام المتمسكين بمنهجهم الربانى وبين غيرهم من العلمانيين والشيوعيين والمتغربين من تلاميذ الغرب سببه جوهر يعتبره المسلمون من ثوابتهم التى لا يحيدون عنها وهو أنهم يقولون للجميع: إن القرآن والسنة هما مصدر ديننا وأساس عقيدتنا ومنطلق شريعتنا، ومنهج تفكيرنا، ومعين أخلاقنا وحياتنا كلها {قُلْ إنَّ صَلاتِى ونُسُكِى ومَحْيَاى ومَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163]. وهذان المصدران بعيدان كل البعد عن آراء العقول وشهوات النفوس، وهوى القلوب {إن يَتَّبِعُونَ إلا الظَّنَّ ومَا تَهْوَى الأَنفُسُ ولَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى} [النجم: 23]، فكل حركة وسكنة للمسلم مستمدة من هذين المصدرين، وبذلك تتحول الحركات والسكنات إلى عبادة لله رب العالمين، وبذلك تصبح المعارف والعلوم عندنا جزءا من عبادتنا وترتبط بعقائدنا وأخلاقنا، وفى الوقت نفسه تخدم رسالتنا الإنسانية فى الوجود، فأين هذه القيمة من أصحاب المنهج المادى الذين فصلوا عن المعارف والعلوم القيم والأخلاق والدين فخرجوا أجيالا لا تعرف لها ربا ولا تتحلى بقيم أو خلق وتعيش فى باطل وحياة ضنك؟! هذا هو موطن الافتراق بين المنهجين، ولذلك سمى المولى الكتاب الكريم فرقانا {تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، فهو يفرق بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، وعبادة العقل والمادة، وعبادة الله سبحانه، فيفصل بين الإيمان والكفر، ومع هذا فنحن لا نجبر أحدا على ديننا ولا نكرهه على منهاجنا، بل ندعوه إليه بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتى هى أحسن فنقول له: {لا إكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَىّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ويُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256] وهذه هى الحرية الحقيقية، وواقعنا التاريخى يصدق ذلك من يوم أن نزل هذا الكتاب على رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وواقع الإسلام ومنهجه الثابت هو الحجة وليس انحراف بعض المسلمين عن هذا الصراط المستقيم. فلم التخوف من أناس يشكون إلى الله ضعف قوتهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس؟! لم هذا التخوف وهذا الرعب على الرغم من أن قوى الباطل هى التى فى المركز الأقوى، تساندها جيوش جرارة، وأسلحة فتاكة تنوعت أشكالها وأحجامها، وأموال طائلة، ودول كثيرة، ووزارات وإعلام بأنواعه، ومناهج دراسية، وكل وسائل التشويه والتضليل والجدل العقيم أمام لسان عفيف، ودعوة حكيمة، وحجة بليغة، وبيان واضح، وسلام طاهر، ويستند أصحاب هذا كله إلى تاريخ طاهر، وحاضر نقى، وجهاد للعدو، ومناهضة للمستعمر وكلمة حق يقولون للنظم العالمية الظالمة وتلاميذهم وأعوانهم فى بلادنا الإسلامية والعربية {ويَا قَوْمِ مَا لِى أَدْعُوكُمْ إلَى النَّجَاةِ وتَدْعُونَنِى إلَى النَّارِ} [غافر:41]. فإذا التف الناس من حولهم وهم يحملون هذا المنهج الربانى فما يضير المهيمن القوى أن يدع الناس أن يختاروا رجالها ونظمها بل دستورها ويصبحوا أحرارا فى اعتقادهم وعاداتهم وتقاليدهم وأحكامهم بل ملابسهم؟ وما الذى يضيرهم من ارتداء الحجاب وسط الكاسيات العاريات المائلات المميلات على رءوسهن أسنمة البخت المائلة اللاتى يحميهن الجميع ويدافع عن حريتهن فى ملبسهن وتبرجهن وفسوقهن وعصيانهن، ويهاجمون العفيفات الطاهرات ويسخرون من زيهن، فهل يحتاج الأمر إلى تشريع فى بلد الغالبية فيه مسلمون ينادون بأعلى أصواتهم الإسلام هو الحل، وتشهد بذلك نتائج الانتخابات الحرة النزيهة التى شهد لها العالم أجمع ولكن {فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ} [الحج: 46]؟ ألستم المنادين بالحرية والديمقراطية والمساواة؟ فأين هذا كله؟! إن قانون أجدادكم الذى تطبقونه هو إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق الغنى القوى تركوه، فالميكافيلية التى تحكمكم ليست حديثة، ولكنكم جددتم قديما نساه الناس وزال حين ساد شرع الله، وسيزول تضليلكم للناس فى يوم من الأيام، أحسبه قريبا جدا بعد أن زاد وعى الناس وأصبحوا يفرقون بين الخبيث والطيب. وما نقوله ليس من التمنى الكاذب، ولكن من اليقين الجازم، ولكنه ينتظر الرجال الذين صدقوا الله ما وعدوه، ليضعوه موضع التنفيذ. تقول متى هو؟ أقول: قل عسى أن يكون قريبا. ---------------------------- جمعة أمين عبد العزيز نائب المرشد العام للإخوان المسلمين