فى الوقت الذى ارتفعت فيه أسماء أشباه الصحفيين وتركزت أضواء المسرح على أنصاف الموهوبين، كان عبد المنعم سليم جبارة يصنع صحافة حقيقية فى الظل، من أجل البحث عن مجتمع الفضيلة ودولة العدل التى طالما حلم بها، وللعمل على إنقاذ الوطن من براثن الحكم العسكري الفاشي، وتعبيد الطريق إلى حرية تشمل الجميع دون تفريق، وغرس صوت بديل للبسطاء لمواجهة تزييف السلطة وتدليس أذرع الإعلام. ولأن حسن الخاتمة دلالة على طيب السيرة، رحل أستاذ الصحافة الإسلامية ومعلم جيل الموهوبين فى بلاط صاحبة الجلالة، حيث رحل الخلوق فى ليلة القدر 27 رمضان 1423ه الموافق 21 نوفمبر2003، لتحل ذكراه عطرة، ومسيرة حافلة عمل خلالها هذا المبدع الصامت، والطموح الهادئ بهمة الشباب، وروح الأبطال، وصنع نموذجا يحتذى به لما يجب أن يكون عليه سمة الصحفي القدير والمتمرس، خلال رحلة تنقل بين مجلة "الدعوة" و"لواء الإسلام" إلى "آفاق عربية"، و"الشعب"، و"المجتمع"، وكان خلالها قلما سيالا، لم تبهره الأضواء، ولم يخدعه بهرج السلطة. تخرج عبد المنعم سليم جبارة في كلية الآداب، وكان تخصصه في "الجغرافيا"، وهو ما ساعده في تحليلاته السياسية على استيعاب أحوال العالم الإسلامي، بل العالم كله، فقد كانت الدنيا تحت ناظريه يعرف تضاريسها الجغرافية كما يعرف تضاريسها السياسية، ولذا جاءت كتاباته عميقة، تشير إلى وعي جاد بما يدور على خريطة العالم. وكانت تجربته الإنسانية زاخرة وعامرة، مع قسوة بعض جوانبها ومراراتها وبشاعتها، فقد ولد في الثاني والعشرين من أكتوبر عام 1930م لعائلة ميسورة في مركز فاقوس بمحافظة الشرقية، ومكّنه المستوى المادي المرتفع لأسرته من دخول جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا). وانضم وهو طالب في الجامعة إلى جماعة الإخوان المسلمين، وشارك في عمليات الفدائيين ضد المستعمرين الإنجليز بمنطقة قناةالسويس في أوائل الخمسينات، واعتقل عام 1955 وظلَّ بالمعتقل حتى أفرج عنه عام 1974م، بعد أن قضى نحو عشرين عاما، ذاق فيها مرارة السجن وبشاعة التعذيب وقسوة الظلم. وخرج جبارة من غياهب الظلمات وهو في الرابعة والأربعين من العمر، لم يتزوج، ودون وظيفة، فعمل في وزارة التربية والتعليم موجها بالتعليم الثانوي، وفي عام 1976م انضم إلى مجلة "الدعوة"، ثم أعير إلى الإمارات العربية المتحدة ليعمل في مجال التدريس، ويؤسس مع آخرين مجلة "الإصلاح"، ثم ترك الإمارات وعاد إلى مصر بعد سنوات. الميزة الرئيسية التي تميز سليم جبارة، هي أنه لا يحب الضجيج، بمعنى أنه يريد أن يخدم دينه ودعوته إلى الله في صمت، فلا يسعى إلى الأضواء، ولا يجري وراء البريق، ولا يستشعر "الأنا" التي تعبِّر عن حب الذات أو النفس، إلا في مواقف التضحية والبذل، حينئذٍ يقدم نفسه وروحه، في صمت ودون ضجيج. إنَّ بعض العاملين في مجال الحركة الإسلامية والدعوة إلى الله تتسلل إليهم آفة "النرجسية" أو "حب الظهور" أو "الانتفاخ الكاذب". ولكن رجلنا كان متواضعا، أو حريصا على التواضع الذي يدخله في دائرة الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما. هو يريد أن يقول كلمته في هدوء ثمَّ يمضي، وكأنَّه لا يريد أن يعرف أحد أنه هو الذي قال، ولعلَّ ذلك كان من وراء كتابته مئات المقالات بأسماء مستعارة، حيث كانت بعض المطبوعات تحمل له أكثر من مقالة، فيوقع بأسماء مثل: أبو زياد، أبو طارق، د. سيد الفضلي، د. أحمد عبد الحميد البنهاوي، وغيرها. إنَّ تواضع "عبد المنعم سليم جبّارة" في الحياة والدعوة الإسلامية يجعله نموذجا للداعية الإسلامي، الذي تمكن الإيمان من قلبه، فلم تشغله زخارف الدنيا ولا عرضها الزائل، وفي الوقت نفسه يقدم درسا حيا وبليغا إلى "المغرورين" الذين يدورون حول أنفسهم وذواتهم، ويتناسون أنَّ الخدمة في ميدان الدعوة الإسلامية تقتضي التواضع أو إنكار الذات، ليكون عملهم خالصا لوجه الله. ولعل ذلك كان من وراء التكريم الإلهي له، وهو التكريم الذي تبدَّى عند وفاته، فقد ظلَّ واقفا على قدميه، يصلي ويتهجَّد ليلة السابع والعشرين من رمضان الماضي، وهي الليلة المباركة التي يرجح العلماء أن تكون ليلة القدر، فقد اختاره الله وهو يصلي، وتمَّ دفنه يوم الجمعة، ورأى من رافقوه إلى مثواه معالم كرامات تدل على أنَّه من المقبولين إن شاء الله. هذا الرجل الطيب والداعية الذي ينكر نفسه، كان مثالا للمسلم الذي يعرف القناعة والرضا بقدر الله، تقول عنه زوجته: "كان زوجي نسمة لطيفة في حياته ومماته، كان معلما منذ أول لحظة ارتباطنا، منذ أن ارتضينا هذا الطريق نقطعه معا إلى الجنَّة، فبدأنا بشقة صغيرة في شبرا الخيمة، ولم أشتر فستان زفاف، بل استعرت فستان أختي، وعقدنا زواجنا بمسجد صلاح الدين بالمنيل في حفل عائلي صغير، ثم فتحت علينا الدنيا أبوابها، فتدفق المال، ولكن كل هذا كان في يده لا في قلبه. "لم يغيره فيض العطاء بعد طول الحرمان؛ لأنَّ قلبه قد تعلق بأمل آخر.. الجنة، رغم حياته الزاخرة لم يكن يذكر ما حدث له إطلاقا، بل كنت أعرفه من الكتب ولا أحدثه فيه، كان يشعر بأن ما يقدمه لدعوته هو كنزه، فكان أحرص ما يكون عليه، وعلى ألا يطلع عليه أحد، فلا أذكر أنه روى لنا ما حدث معه في السجن إلا مرة واحدة، كنا نشكو من شدة الحر، فشرد ببصره قليلا ثم قال: سبحان الله، لقد كانت تأتي على الإخوان أيام في سجن قنا نظن فيها أنَّ الموت يكاد ينالنا من شدة الحر، وإذا بالمولى عزَّ وجل يرسل ما يلطف به الجو فيخفف عنا والجنود حولنا في ذهول". تحل ذكرى رحيل فارس الكلمة فى صمت مثلما عاش عمره فى هدوء، إلا أنه بقي عميدا لمدرسة صحفية بناءة لم تبحث عن الهدم ولم تنجرف خلف الصراعات، ولم تعلُ سوى كلمة الحق ومصلحة الدعوة ونهضة الوطن ونصرة الضعفاء، وقدم نموذجا تحتاج مصر لمثله فى مثل تلك الأيام.