فيما بدا أن نظام بشار الأسد عقد عزمه على إبادة البشر والحجر في حربه الخاسرة ضد الثوار فإن التراث الثقافي التاريخي لسوريا بات على المحك في ظل تطورات مخيفةتهدد الثقافة والمكان والذاكرة والهوية وتشكل عدوانا على الإنسانية كلها بقدرما تفتح هذه التطورات ملف الآثار في دول الربيع العربي. وتعد سوريا من الدول الغنية حقا بالآثار حتى إن المقولة الشائعة هناك :"يمكن للمرء أن يحفر في اى مكان ويجد آثارا" فيما توضح أشرطة فيديو ومقاطع على موقع"يوتيوب" الإلكتروني عمليات نهب الآثار في خضم المواجهات الراهنة بين جيش نظام بشار الأسد والثوار. وأوضح مارك جريشماير رئيس قسم الآثار في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى ببيروت أن "الآثار السورية تكتسب أهمية استثنائية كونها شاهدة على التطور البشرى وتشهد على نشوء البلدات الأولى في التاريخ". واعتبر الكاتب الشهير روبرت فيسك في صحيفة الإندبندنت البريطانية أن تاريخ سوريا عرضة لمخاطر يومية، مؤكدا على أن بعض المعالم الأثرية السورية تعرضت لأضرار مدمرة لا يمكن اصلاحها فيما طال الدمار مناطق أثرية رومانية ولا تتردد قوات بشارالأسد فى تفجير القلاع التاريخية. وكانت منظمة التربية والعلوم والثقافة التابعة للأمم المتحدة "اليونسكو" قد أعربت عن قلقها البالغ حيال مصير المعالم التاريخية فى سوريا، فيما قالت ايرينا بوكوفا مديرة المنظمة: "تثير قلقي بصورة خاصة الأنباء الواردة عن المعارك العنيفة فيمدينة حلب التي أدرج الجزء القديم منها ضمن قائمة التراث العالمي منذ عام 1986". وكان مسئولون أمريكيون قد أعلنوا أن متحف بول جيتى الخاص فى لوس أنجلوس وافق على إعادة 40 قطعة أثرية إلى ايطاليا من أشهرها "تمثال أفروديت" ربة الحب والجمال فى الأساطير اليونانية بموجب اتفاق ينهى نزاعا طال أمده بين الجانبين. وإلى جانب متحف جيتى- نجح الإيطاليون عبر التقاضى أمام محاكم أمريكية فى استعادة نحو مائة تحفة وأثر تاريخى من خمسة متاحف فى الولاياتالمتحدة كانت قد استحوذت على هذه التحف والأثار المسروقة من ايطاليا ومن بينها متحف بوسطن للفنونالجميلة، فيما اكتوى الليبيون ابان الحقبة الاستعمارية الإيطالية بنهب آثارهم ونقلها لإيطاليا. غير أن الليبيين واجهوا حالة جديدة من السطو على تراثهم الثقافى ونهب آثارهم وصفت بأنها "كارثة" حيث تعرضت كنوز أثرية ليبية للنهب فى خضم الثورة ضد نظام العقيد معمر القذافى. وأوضحت تقارير صحفية أن نحو ثمانية آلاف قطعة أثرية سرقت من قبو أحد البنوك فى مدينة بنغازى ووصفت بعض هذه القطع بأنها "لا تقدر بثمن". ومن بين القطع الأثرية الليبية التى تعرضت للنهب والسرقة من قبو أسفل "البهو العثمانى" لمبنى المصرف التجارى الليبى مجموعة من التماثيل النادرة والمجوهراتوالعملات القديمة فيما تؤكد التقارير أن هناك محاولات جرت لتهريبها للخارج. ومن مدهشات التاريخ ومفارقاته أن هذه المجموعة الأثرية التى نهبت مؤخرا كانت قد تعرضت للسرقة عدة مرات خلال القرن العشرين واستولى على أغلبها بعض رموز النظامالفاشى الإيطالى بقيادة الديكتاتور بنيتو موسولينى الذى اعتبرها "غنيمة حرب وجزء من الإمبراطورية الرومانيةالجديدة" وعرضها فى روما عام 1940 غير أن السلطات الليبية نجحت فى استعادتها فى ستينيات القرن المنصرم. ووصف يوسف بن نصر أحد كبار المسئولين بمراقبة الآثار فى بنغازى عملية نهب الآثار بأنها "كارثة" حلت على هذه المدينة التى بناها الإغريق فى القرن السادس قبل الميلاد، موضحا أن القطع الآثرية التى سرقت هى "كنوز وطنية تاريخية لاتقدربثمن". وفى الاتجاه ذاته- قال العالم الأثرى البريطانى بول بينيت وهو من المتخصصين فى الآثار الليبية: "هذه أكبر سرقة نمت إلى علمى وثمة مؤشرات تفيد بأن بعض القطع المنهوبة وجدت طريقها للسوق". وأضاف: "ليس بمقدورنا سوى أن نطلب من المؤسسات والجهات المعنية فى العالم كله المساعدة فى استعادة الآثار الليبية إذا ظهرت". ويتضمن التراث الأثرى الليبى خمسة مواقع أدرجت على قائمة التراث الثقافى العالمى لمنظمة التربية والثقافة والعلوم التابعة للأمم المتحدة "اليونيسكو" وبها مجموعةمن أروع الآثار اليونانية والرومانية فيما كانت ايرينا بوكوفا المدير العام لليونيسكو قد حذرت فى مؤتمر كان قد عقد بباريس حول حماية التراث الثقافى الليبى من نذر الخطر على الكنوز الآثرية الليبية مثلما حدث فى العراق عندما اختفت آلافالقطع الأثرية فور الإطاحة بنظام صدام حسين. ومن المفارقات أن مدينة سرت التى وصفت بالمعقل الأخير لنظام معمر القذافى كانت قد اختيرت فى مطلع العام الفائت كعاصمة للثقافة العربية فيما دفعت المدينة شأنها شأن بقية مدن ليبيا ثمنا غاليا للثورة التى اطاحت بالنظام الاستبدادى وهو نظامانتهك بشدة الحقوق الثقافية للشعب الليبى وأهمل لسنوات طويلة المتاحف الآثرية حتى باتت فى حالة يرثى لها. وواقع الحال أن التاريخ الثقافى العالمى يتضمن صفحات ولمحات دالة حول العلاقة الوثيقة بين انظمة الحكم الفاسدة والمستبدة وجرائم سرقة الآثار والعدوان علىالتراث الثقافى للشعوب.. أنها أنظمة تهدد المكان والزمان والذاكرة فى ظل الانهيارالحاد فى واقعها وقيمها.