لو أن قاسماً مشتركاً يجمع المصريين اليوم برغم ما بينهم من انقسام فلن يكون أوضح من إحساسهم المشترك بالقرف. و«القرف» فى اللغة هو مخالطة المستكره. هو امتعاض يصل أحيانا إلى النفور التام من شخص أو فكرة أو وضع أو مكان أو زمان أو أى شىء لا يطيقه الإنسان لكنه يحمل على معايشته. ولا يأخذ القرف شكلاً معيناً أو يصب فى اتجاه واحد أو يأتى على درجة ثابتة. فالقرف له أكثر من شكل واتجاه ودرجة. والمصريون اليوم يجمعون على أنهم «قرفانين». لكنهم يتفرقون حول سبب هذا القرف. يجمع أغلبهم القرف من الوضع الاقتصادى والتخبط السياسى وفوضى الطرقات وفساد الإدارة وتدهور البيئة. لكن البعض ينسب القرف إلى قرارات الرئاسة فيما يرده آخرون إلى انتهازية الإخوان أو تنطع السلفيين أو خبث الليبراليين. المهم أن الجميع «قرفان».. أما لماذا «قرفان» فأمر يختلفون عليه. ولأن القرف متفشٍّ، فليس بأقل من أن يهتم به أساتذة العلوم الاجتماعية فيطوروا له مؤشراً يرصد أشكاله ويقيس درجاته واتجاهاته. ولا أقول هذا من قبيل السخرية أو الترف الفكرى. فالوقت يعز فيه الترف. وإنما أقوله لأن القرف أضعف الصحة النفسية للمصريين فضلاً عن أن الشعور به يتفاقم فى المراحل الانتقالية. لو ترك هكذا دون معالجة لانتهى الحال بأغلبية الناس وهى سلبية تنتمى إلى حزب الكنبة أو متهورة تندفع إلى العنف لتفريغ ما لديها من شحنات من القرف والكراهية. وقبل أيام قليلة جمعتنى مع زميلى الكريم الدكتور سيف الدين عبدالفتاح مستشار السيد الرئيس للشئون السياسية ندوة حول التحديات التى تواجه الديمقراطيات العربية الناهضة. وألقى خلالها بحثاً متميزاً حول المراحل الانتقالية وطالب بتأسيس علم متكامل يعتنى بدراسة هذه المراحل. علم «بينى» كما يسميه أهل العلوم الإنسانية يساهم فيه دارسو السياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون وعلوم الجريمة والنفس. وأرى أن بناء مؤشر للقرف جزء من بناء هذا الفرع المعرفى المتخصص. فعلى ضوء ما نراه كل يوم فى مصر من مشاعر القرف الجمعى من مرحلة انتقالية اخترنا لها أوعر الطرق، فلن يكون مؤشر القرف بأقل أهمية من أية مؤشرات أخرى تستعمل فى الدراسات الاجتماعية مثل مؤشر الحرمان أو مؤشر قوة الدولة أو مؤشر السعادة أو مؤشر الفشل. وكلها مقاييس علمية تساعد على فهم ومعالجة الأخطاء. لكن الأهم الآن من بناء مؤشر علمى لقياس القرف، أن تحذر السياسة من ترك هذا الشعور السلبى يتفاقم دون وقفة جادة ومعالجة سريعة. فترك الإحساس الجمعى بالقرف يتراكم فى وقت ثورة وسيولة وانتقال أشبه بتصنيع قنبلة هائلة يمكن أن تنفجر فى وجه الجميع فى أى وقت. وجدير بالذكر هنا أنه قد صدر قبل ثورة يناير بعام كتاب للدكتور حمدى الفرماوى أستاذ علم النفس التربوى بجامعة المنوفية بعنوان «الإنسان العربى بين حاجاته النفسية والشعور بالقرف». وهو كتاب على قدر كبير من الأهمية ربط الشعور بالقرف الناتج عن عدم تلبية الاحتياجات الإنسانية بالانفجار المجتمعى كوسيلة للتعويض عن عدم إشباع تلك الحاجات. والناس فى مصر الآن تعانى الأمرين. فلا احتياجاتهم الفسيولوجية من مأكل ومشرب وملبس قد أشبعت، ولا احتياجاتهم للسلامة والأمن قد لبيت، ولا احتياجاتهم الاجتماعية للزواج وتكوين أسرة والعيش فى بيئة سليمة قد تحققت، ولا احتياجهم للإحساس بتقدير الآخرين يلتفت إليه أحد. ولهذا فقد لا تجد أمامها بعد العجز عن تحقيق الذات من سبيل للتخلص من القرف غير العنف والانفجار بلا رؤية أو هدف. يجب ألا ننسى أن ثورة يناير صنعها شعور جمعى بالقرف. والقرف اليوم يتراكم.. .وهذا أوجب للحذر والانتباه.