الساعة تعلن السابعة، يستيقظ «محمد على»، شاب لم يبلغ العشرين من عمره، يسرع فى ارتداء ملابسه حتى يلحق بمدرسته، وفى طريقه بين حوارى وعطفات المنطقة الشعبية «بولاق أبوالعلا»، تتوقف خُطاه عند أحد العقارات القديمة، لينادى بأعلى صوته «باللووو»، يخرج شاب من العمر نفسه من شباك شقته، مغمض العينين، يستعجله «على» حتى يتمكنا من دخول المدرسة قبل الثامنة، وإلا قفزا من على سورها، ليبتعدا عن «خرزانات» المدرسين والمشرفين.. تجتمع «الشلة» داخل أحد فصول المدرسة الفنية، بينما يفتح أحد الأصدقاء، ويُدعى «ميدو»، المناقشة حول ما دار أمس من اشتباكات خلال إحياء ذكرى أحداث محمد محمود، ليقرر الثلاثة ومعهم «معتز» الذهاب والاشتراك فى هذه الأحداث، كما عهدوا سابقاً فى أى أحداث تندلع بين أركان ميدان الثورة، وكل ذلك دون علم أهاليهم. ينتظرون داخل فصلهم حتى سماع «جرس» نهاية اليوم، ليخرجوا من المدرسة وأساريرهم مُتهللة، فرحين بما آتاهم الله من فكر وخطة مُحكمة للنزول إلى الميدان، حيث يعود كل واحد منهم إلى بيته، يتناول الغداء، على أن يلتقى الجميع فى الخامسة قبل غروب الشمس فى ميدان التحرير ومنه ينطلقون إلى موقع الاشتباكات، لم يحتاجوا إلى أقنعة واقية من الغازات المسيلة للدموع، ولا «خوذ» يرتدونها على رؤوسهم، كان كل ما يلزمهم ويمتلكونه هو بضعة جنيهات تعينهم على اليوم الذى سيستمر حتى بعد ساعات من منتصف الليل. أعمارهم الصغيرة لم تمنعهم، أما عن الخوف فلن ولم يتخلل قلوبهم: «احنا لا بنخاف ولا بنكش».. حتى بطاقة الرقم القومى لم يستخرجوها، فأكبرهم لم يبلغ بعد ال18.. أسفل تمثال عبدالمنعم رياض كان مكان اللقاء، تجمعوا مترابطين، والابتسامة تطغى على وجوههم الطفولية، بملابسهم الكاجوال وأحذيتهم الرياضية.. دلفوا بُخطى ثابتة نحو هدفهم محمد محمود ثم مقر السفارة الأمريكية، مروا خلال طريقهم بخيام المعتصمين، حيث مازحوهم: «انتو قاعدين هنا ليه.. قوموا معانا يللا»، ليجيبوهم فى فكاهة: «خدوا بالكم من نفسكم يا رجالة». أصوات طلقات الصوت تقترب رويداً رويداً من مرمى آذانهم، وتكاد أنوف «الشلة المدرسية» أن تلتقط الغازات المسيلة للدموع التى تطلقها قوات الأمن على متظاهرى «الحجارة»، تتوقف أقدامهم عن السير خِلسة، وتجوب أعينهم المكان لمراقبة الوضع، فى الوقت الذى ينصحهم «محمود على» بالانتظار، وما هى إلا لحظات حتى يجدوا أن المتظاهرين الصامدين يلوذون بالفرار نحوهم فى حشود بالمئات، وكل ذلك بسبب قنبلتى غاز ألقتهما الشرطة عليهم، بينما هم يقفون بثبات فهم يعرفون طريقة تعامل الشرطة مع الثوار «بيضربوا طلقتين صوت وبعد كده قنبلة غاز وخلاص». «يللا يا رجالة.. توكلنا على الله» يقولها «باللو» أحد أفراد «الشلة» مُخاطباً بقية أصدقائه، فقد حان الوقت الذى ينتظرونه جميعاً، ارتدوا «الزنوط» ثم تخللوا بين أجساد المتظاهرين، قابضين بأيديهم على «طوب» للرد على قنابل غاز قوات الأمن، وما هى إلا لحظات حتى باغتهم الطرف الآخر بقنبلة غاز سقطت إلى جوار «معتز» صاحب الجسد النحيل الذى لم يفكر لحظة، فأمسكها بيديه وألقاها مرة أخرى على المجندين كاتماً أنفاسه والدموع تنهمر من عينيه، إلا أن قنبلة أخرى دعت الجميع إلى الانسحاب، تاهت «الشلة» وسط الزحام والكر والفر، بينما وجد «ميدو» -الذى أتعبت صدره رائحة الغاز- إحدى الفتيات المحجبات وفى يدها «بخاخة» تحوى الخل، «رشت» قليلاً منها فى وجهه، فأفاق مرة أخرى، بينما وقف «محمد على» ثابتاً: «أصلى انا عندى قنبلة غاز فاضية فى البيت قبل ما انزل الميدان باشم فيها.. عشان آخد على الجو»، فترتفع الضحكات من أفواه الجميع، بينما يستمر «باللو» فى فرك عينيه اللتين تحولتا إلى الإحمرار. 5 دقائق هى وقت الاستراحة المسموح به، حيث يجلس الأربعة متراصين متلاصقين على الرصيف المجاور لمسجد عمر مكرم، يخاطبهم مجموعة من الأطباء: «انتو كويسين يا رجالة؟»، ليرد عليهم «معتز» مازحاً: «ماتقلقش يا عمنا.. إحنا أنشف من حديد عز»، يُقهقه الجميع مستمرين فى إزالة دموعهم «بالمناديل الورقية» التى يقبضون بأيديهم عليها، بينما يحاول «ميدو» إزالة تلك البقع البيضاء على وجهه الناتجة عن خلطة «الخل» القوية، واكتفى «باللو» بالاستلقاء على الأرض محاولاً التقاط أنفاسه، فى الوقت الذى نهرهم «محمد على» ذو الوجه القاسى: «إيه يا رجالة.. لسه بدرى.. مش عاوزين نستموت بقى.. دى لسه الساعة ماجتش 10». الكل فى سكون، بينما يلوح فى الأفق علم أبيض، يحمله أحد المتظاهرين، يقف فى موقع الاشتباكات أمام قوات الأمن، يبادرهم «باللو» الذى أفاق واستطاع التنفس من جديد: «يا رجالة.. طول ما العلم واقف فى وش الشرطة.. ماينفعش نقعد». استجمع الأربعة قواهم، ثم عادوا من حيث جاءوا، فى مواجهة مجندىالداخلية، حاولوا الوصول إلى الصفوف الأمامية، حتى ردت عليهم القوات ب«قنبلة» مُسيلة للدموع، فروا على أثرها، إلا أنهم عاودوا إلقاء «الطوب» من جديد، وسط الدرجات النارية التى تجوب وتتخلل أجساد البشر فى محاولة لإنقاذ أحدهم ب«الإسعاف الطائر»، الهتافات تزداد، والحناجر تنضح بأقوى ما لديها من صوت: «الشعب يريد إسقاط النظام.. يسقط يسقط حكم المرشد»، فى نفس اللحظة التى يرد عليهم المجندون بقنابل غاز ضلت مسارها فى أحد الأركان حيث لا يوجد أى من المتظاهرين لتنبعث الضحكات وترتسم الابتسامات على شفاه «الشلة» صائحين: «مش عارفين ينشنوا.. احنا ممكن نعلمهم.. ههههههه»، إلا أن قنبلة أخرى أحدثت الفجوة ليلوذوا بالفرار مرة أخرى، ويرتكنوا على حائط كنيسة قصر الدوبارة مبتعدين بدموعهم. الوقت يمر كالسيف، إن لم يستغله المتظاهرون؛ قطعهم، تستجمع «الشلة» قواها، بينما يخاطبهم «معتز» صاحب الجسد النحيل: «أنا جعان يا رجالة.. عاوز آكل»، يضحك الثلاثة الآخرون على صديقهم مخاطبينه فى نفس واحد: «ياد استرجل»، بينما مازحه «باللو» بالكف على وجهه.. يصمتون بُرهة، حين تلتقط أعينهم أحد الأشخاص يرفع يديه عالياً حاملاً «سماعة» كبيرة محمولة، تُنشد: «بلادى.. بلادى.. بلادى.. لكِ حُبى وفؤادى.. مصر يا أم البلاد أنت غايتى والمُراد...»، تلك الأشعار المأخوذة عن كلمات حماسية للزعيم الراحل مُصطفى كامل، ألهبت مشاعر الجميع، ليبعثهم من أماكنهم نحو ميدان سيمون بوليفار، حيث مقر الاشتباكات، رافعين أيديهم مُهللين مُكررين كلمات النشيد، نسى «معتز» خواء معدته، وذهب مع رفقاء الميدان مع المتظاهرين، مُلتقطين بأيديهم خلال طريقهم «الطوب»، بينما أخرج «باللو» الليزر من جعبته لمُعاكسة قوات الأمن التى تراجعت للوراء تجاه شارع قصر العينى المُغلق بأمر من الداخلية، إلا أن السيارة المُصفحة التابعة للأمن المركزى توغلت نحو الثوار حتى كادت أن تدهسهم، فى الوقت الذى حذر فيه «محمود على» رفاقه من التقدم والثبات فى أماكنهم، فتراجع الجميع بعد قنبلتى غاز سقطت إحداهما على رأس أحد المتظاهرين. الليل اقترب من انتصافه، وما زال الكر والفر مستمرين، والابتسامات استولت على وجوه «الشلة»، الذين ارتكنوا على الرصيف، فى سبيل الحصول على قسط من الراحة، تسللت إلى أنوف الأربعة أصدقاء رائحة «البطاطا» المشوية التى تخرج من مدخنة بائع البطاطا، اشتهاها «معتز» الذى صبر فى سبيل الحصول على وجبة ساخنة تملأ معدته الخاوية، ليعرض على الملأ: «أنا جعان يا رجالة ومش قادر خلاص.. هموت»، ابتسم الثلاثة الآخرون الذين بدى على ملامحهم الإرهاق، وأصيبت عضلات أقدامهم ب«الشد» بسبب الجرى المستمر والهروب الدائم من قنابل الغاز، بينما يُحاول «معتز» الجائع إيجاد قليل من الماء لوضعه على يده اليمنى التى تورمت بسبب إمساكه بقنبلة الغاز.. الصمت خيم على «الشلة» الذين قرروا الذهاب إلى بائع «البطاطا» صاحب الأدخنة اللذيذة التى اختلطت برائحة «غاز» الشرطة، وعند ذلك الرجل المرتدى جلباباً صعيدياً خرجت المزحات من فم «محمد على»: «عاوزين بربع جنيه بطاطا يا صاحبى»، نظر إليه البائع بينما استغرق الثلاثة الآخرون فى مراقبة الموقف، ليرد عليه: «ربع جنيه إيه يا عمنا.. أقل حاجة بجنيه»، رمقه «باللو» بعينيه: «البطاطا بجنيه.. ليه يا عمنا.. والله الواحد مفروض يعمل مظاهرات ضدكم»، ارتسمت الابتسامة على وجوه الجميع، فى الوقت الذى التهم «معتز» النحيل قطعة البطاطا بقشرتها: «جعان يا جدعان.. أعمل إيه». الوقت يمر وما زال لدى برنامج «الشلة» الكثير ليفعلوه، ولابد لكل واحد منهم أن يذهب إلى منزله سريعاً، فى الوقت الذى وجدوا فيه مجموعة من الشباب يرفضون ما يفعله المتظاهرون واصفين إياهم ب«التافهين»، إلا أن العقول الصغيرة كانت تملك قدرة على الرد عليهم، ويحتدم النقاش والجدال، ويبدأ «ميدو» الذى ارتدى «كمامة» طبية بيضاء بسبب رائحة الغاز: «أولاً احنا مش تافهين.. احنا بس معترضين على سلطات الرئيس اللى عاوز ياخدها كلها فى جيبه.. ده مُبارك نفسه معملش كده.. واحنا مش هنسمح للريس الجديد إنه يكون ديكتاتور»، يستغرق الجميع فى المناقشة التى تنتهى سريعاً من «محمد على»: «كل واحد حر فى رأيه.. وما دام انت مش راضى عن المتظاهرين.. إيه اللى جابك هنا»، لترد عليهه «الشلة» المُعترضة على المظاهرات: «احنا جايين نتفرج»، يبتعد عنهم الأربعة، مقررين أنهم سيأخذون جولتين فى المواجاهات ضد الشرطة وبعدها سيعودون إلى الميدان، وبُخطى ثابتة يتقدمون نحو قنابل الغاز التى تعودوا على رائحتها، يُلقون قليلاً من الطوب على المُجندين وأفواههم مفتوحة عن آخرها هاتفة: «الشعب يريد إسقاط النظام»، إلا أن أبدانهم الضئيلة وصدورهم التى امتلأت عن آخرها بالغاز المسيل للدموع، جعلتهم يتركون مقر الاشتباكات متوجهين صوب خيم «حزب الدستور». جمع كبير حول إحدى الخيام لفت أنظارهم، لم يكن فى داخل الأربعة رفقاء ترك الميدان، كانوا فقط يريدون الاستمرار، حتى بالاعتصام إلا أن قلق الأسرة عليهم منعهم من ذلك، فتوجهوا نحو الجمع، الذى ارتدى أغلبه «الكوفيات» الفلسطينية، بينما يجلس فى منتصف تلك الدائرة الفنان أحمد إسماعيل، حاملاً ذلك العود الشرقى الأصيل مغنياً بصوته العذب: «مافيش فى الأغانى كده ومش كده». الساعة قاربت على الثانية والنصف ليلاً، هواتف «الشلة» بدأت فى إصدار رنينها: «أبويا بيكلمنى»، ليُقرر الأربعة مغادرة المكان بعد أكثر من 7 ساعات بين أروقته، مُتخذين الطريق من ميدان التحرير إلى بولاق أبوالعلا، سيراً على الأقدام بالرغم من التعب والكد الذى كاد أن يفتك بهم، إلا أن الابتسامات التى حلت محل البقع البيضاء على وجوههم، والانتعاش الذى حل محل الغازات المسيلة فى صدورهم، أعادتهم للحياة من جديد، وكل واحد منهم يتذكر ما حدث اليوم ويحكيه ويقُصه على رفيقه، ووعود بينهم بأن تظل الخطة كما هى، من البيت إلى المدرسة إلى البيت مرة أخرى لتناول الغداء ومنه إلى ميدان التحرير فى الخامسة حتى يشاركوا فيما أطلقوا عليها: «الثورة الثانية»، بينما تحفظ عقولهم الكلمات التى كان يُرددها «كمال خليل» اليسارى الثورى خلال وجوده فى حفلة الأغانى الثورية التى كانت بين خيام المعتصمين: «لولا الشباب اللى بيواجهوا الشرطة دول.. ماكنش الاعتصام ده كمل ولا تم من أساسه».