أختلف مع من يقول إن حوادث القطارات فى مصر نتيجة الإهمال، ذلك أن الخطأ حين يتكرر وبصورة شبه منتظمة ولا نتخذ ما يلزم لتلافيه أو نعمل للقضاء على أسبابه، فإن الأمر ينتقل من الإهمال إلى العمد. فقد ذكر تقرير للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء أن اصطدام القطارات ببوابة المنافذ (المزلقانات) هى أكثر حالات حوادث القطارات. ووفقاً لتقرير حديث للمكتب الإقليمى لمنظمة الصحة العالمية، فإن مصر تعد من أسوأ عشر دول فى العالم من حيث ضحايا الحوادث، إذ يبلغ عدد الضحايا نحو 12 ألف قتيل سنوياً بخلاف المصابين. ولم تكن حادثة قطار أسيوط المفزعة -التى راح ضحيتها أكثر من خمسين طفلاً مصرياً، فضلاً عن المصابين- هى الأولى فى كوارث القطارات، بل هى آخر حلقة فى سلسلة متعاقبة من الكوارث لم نحاول منعها لأننا لم نعالج المشكلة فاستمرت الحوادث التى توجع القلب وتدفعنا للحسرة على ما وصلنا إليه، والغريب أننا بعد كل كارثة يتكرر نفس السيناريو من حداد وتعويضات وتحقيق ثم تعليق المسئولية فى رقبة خفير أو سائق القطار، ويكتفى من المسئولية السياسية بإقالة أو استقالة وزير النقل، وأذكِّر أن استقالة الدكتور إبراهيم الدميرى فى حادث قطار الصعيد لم تمنع حادث قطار العياط التى استقال على أثرها وزير النقل وقتها محمد منصور الذى لم تمنع استقالته من تكرار ذات الأمر فى قطار الفيوم ومن بعده قطار أسيوط فى ذات الأسبوع التى أعقبها استقالة وزير النقل الأخير. والأسئلة التى تطرح نفسها.. هل تأمين المزلقانات مسألة صعبة؟ وهل الاعتماد على الخفراء فى تأمين أرواح ملايين المصريين أمر صحيح؟ وهل طرح مناقصة عالمية أو محلية لتأمين المزلقانات مسألة لا تدركها أفهام الحكومات المتعاقبة؟ إن الأهمال العمدى فى تأمين «المزلقانات» جريمة كبرى لا يتحمل وزرها خفير أو عامل «بلوك»، بل يتحملها رئيس الوزراء ووزير النقل، بل رئيس الجمهورية هو المسئول الأول عن هذه الكارثة لأنه لم يحسن اختيار وزرائه ورئيسهم، وعليه مسئولية عدم حسابهم على إهمالهم الجسيم فى أرواح المصريين الذين منحوه ثقتهم. لقد قامت لجنة من مجلس الشورى بالتحقيق فى الحادث الأخير وانتهت إلى أن مسئولية الحادث تنحصر فى خفير المزلقان وعامل البلوك.. أليست هذه مهزلة؟ ألم يتبين للسادة أعضاء اللجنة من مجلس الشورى حجم الكوارث السابقة وأن أسبابها متشابهة؟ ألم يتبين لأعضاء اللجنة أن الحكومة لم تتخذ من الإجراءات ما يجب لمنع هذه الحوادث؟ ألم تكتشف هذه اللجنة أن إغلاق المزلقانات -وفى فقه الأولويات- أولى من غلق المواقع الإباحية؟ وهل غاب عن أعضاء اللجنة أن تضع توصياتها لمنع الأمر مستقبلاً؟ فإلى متى سيظل الإنسان المصرى رخيصاً فى نظرة ولاة الأمور؟ وإلى متى سنتخبط فى الجهالة والعشوائية؟ وإلى متى ستكون اختياراتنا للمسئولية التنفيذية بمعيار الولاء وليس الكفاءة؟ لقد نُشر بالمواقع صورة كتاب موجه لوزير النقل المستقيل من المسئولين عن المزلقانات تنبه إلى خطورة الأمر وتحذره من وقوع الكارثة قبلها بشهر، فإذا ما ثبت صحة هذا الخطاب فيجب تقديم رئيس الوزراء ووزير النقل للمحاكمة بتهمة القتل الخطأ الذى يرقى إلى مرتبة العمد. إن الضحايا يا سادة ليسوا مجرد أرقام فنقول إنهم 50 ضحية مثلاً، فكل ضحية يمثل فجيعة لأهله ومصابا أليما لعائلته. إن الدم واللحم المصريين أغلى من أن يهدرا بمعرفة سفهاء يقتلون الشعب عمداً ويكتفى بتقديم استقالاتهم. فبعد كوارث قطار الصعيد والعبّارة والدويقة وقطار الفيوم وقطار أسيوط، من حق هذا الشعب أن يتولى أمره مسئولون أكْفَاء تملى عليهم ضمائرهم الإحساس بالمسئولية تجاه الناس، وألا يتولى المسئولية إلا من هو جدير بها.