سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
شارع محمد محمود يفيض بالمتظاهرين فى الليلة الأولى للاعتصام «حمد» ألهب حماس المتظاهرين بإلقاء قصيدة عن ضحايا أتوبيس أسيوط.. «قناع فانديتا وزمارة الفوفوزيلا» أبرز معروضات الباعة الجائلين
شارع محمد محمود يفيض بالمتظاهرين من مختلف الأعمار، الأجواء فى بدايته تبدو احتفالية. فى زاوية متسعة بجوار سور الجامعة الأمريكية وقف حمد إبراهيم، 31 سنة، شاعر عامية، يلقى قصائده بحرارة زائدة. المتظاهرون يلتفون حوله ويستمعون إليه بإنصات شديد، ينفعل الشاعر مع الأبيات التى يلقيها حتى يتصبب عرقاً رغم برودة الجو، يصفق له الحاضرون على نظمه الجيد للشعر وعلى طريقة إلقائه المميزة. لم يلق قصيدة عن شهداء الثورة أو محمد محمود أو مجلس الوزراء، بل عن أطفال حادث قطار أسيوط قال فيها: «الأتوبيس فوق راسنا اتكسّر، قلب الأم علينا اتحسر، شفنا بابا يا ناس مدمر، إحنا يا ناس أطفال ماتوا بسبب إهمال، لو جابوا كنوز الدنيا مش هنتعوض بالمال» كلمات استحسنها الواقفون بجواره. يحيونه على ما قال. يعرفونه جيداً من كثرة ما رأوه بميدان التحرير. وبميدان طلعت حرب، الذى هجره منذ شهور قليلة ليتخذ من ميدان التحرير مقراً دائماً لإلقاء أبياته. الأحداث المتتالية تجبره على التأليف كل صباح، يكتب أشعاره فى أجندة خاصة به، يعمل فى مغسلة ملابس صباحاً بشارع القصر العينى ويأتى إلى الميدان مساء، تحية الناس له وثناؤهم على ما يقول جائزته الكبرى. يعترف بأنه يتعرض أحياناً إلى إساءات وأعمال بلطجة. يضع لوحات فنية ثورية رسمها خاله قبيل وفاته. جمع قصاصات الصحف وصور شهداء أتوبيس أسيوط من الأطفال ليعرضها أمام المتظاهرين. كل ما يتمناه هو توفير إضاءة كافية لإظهار روعة رسوم الجرافيتى. خلف الشاعر تبدو رسوم ألوانها زاهية. مرسوم بها الرئيس المخلوع والمشير طنطاوى ومرشد الإخوان محمد بديع. أعلى تلك الصور كتب الفنانون «اللى كلف ما ماتش». لافتة متوسطة الحجم معلقة على أحد أعمدة الإنارة فى بداية شارع محمد محمود تجذب أعين الناظرين مكتوب بها.. «من والد الشهيد مصطفى حلمى: إلى ابنى الغالى، إلى أرواح كل الشهداء وكل الثوار».. شخص آخر أربعينى اسمه محمد ماندو يحمل مشنقة ويطوف بها شارع محمد محمود وميدان التحرير كتب عليها «المشنقة للأفاعى»، يسأله البعض: من تقصد بالأفاعى؟ فيرد عليهم: من قتل الشهداء فى ثورة يناير وماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء ولم يحاسب وحصل على براءة. شباب المتظاهرين والهتافات الثورية شجعت رسامى الجرافيتى على الاستمرار فى الرسم رغم الظلام الذى لحق بالشارع ليلاً. قاموا بإضافة ضحايا أتوبيس أسيوط من الأطفال إلى قائمة الشهداء. ومزجوا بينهم بصورة فنية بديعة؛ هذا شهيد بورسعيد، وذاك من شهداء أتوبيس أسيوط، وآخرون من شهداء محمد محمود وماسبيرو. كثرة أعداد المتظاهرين أدت إلى إغلاق شارع محمد محمود أمام حركة السيارات من الجانبين. فى بداية الشارع تبدو الأجواء احتفالية، لكن عند الاقتراب من شارع يوسف الجندى يختلف الوضع؛ حيث يوجد مستشفيان ميدانيان بهما عدد من الأطباء والمتطوعين. بالقرب منهما تقف سيارات الإسعاف على أهبة الاستعداد. نقلت عدداً قليلاً من المصابين إلى المستشفيات، لا يتمنى المسعفون تكرار أحداث محمد محمود الأولى مرة ثانية. ينتهى وجود المتظاهرين بشارع محمد محمود بالقرب من شارع الفلكى، فيما يتجمهر شباب الألتراس بمنطقة التقاء شارع يوسف الجندى مع شارع الشيخ ريحان، يفصل بينهم وبين قوات الشرطة حاجز خرسانى مر على إنشائه عام كامل لم يتزحزح خلاله. هتافات الألتراس تهز أرجاء المكان «لابس تى شيرت أحمر ورايح بورسعيد.. راجع وكفنى أبيض وفى بلدى بقيت شهيد، فى الجنة يا شهيد، فى الجنة يا شهيد، الثورة تانى من جديد»، ما أن تهدأ الهتافات حتى تعود من جديد «حق الشهيد راجع راجع 100 يوم عدوا ألم ومواجع»، وقالوا أيضاً «اشهد يا محمد محمود.. كانوا كلاب وكنا أسود».بمرور الوقت يتطور الهتاف إلى «الشعب يريد إسقاط النظام». استبدل شباب الألتراس كذلك هتاف «يسقط يسقط حكم العسكر» بهتاف «يسقط يسقط حكم المرشد» شارع يوسف الجندى مظلم جداً. شعاع الليزر الأخضر الذى يستخدمه مشجعو المباريات يلوح فى الأفق يوجهه صاحبه ناحية قوات الشرطة التى توجد بشارع ريحان. الشارع مغلق من كل الجهات بالحواجز الخرسانية باستثناء شارع منصور. معظم المحال التجارية بالشارع أغلقت أبوابها منذ الصباح تحسباً لوقوع اشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين باستثناء بعض المطاعم السياحية. الباعة الجائلون ينتشرون فى أنحاء الشارع. زمارة الفوفوزيلا وقناع فانديتا أكثر الأشياء رواجاً فى تلك الليلة، ثمن الواحدة منها 10 جنيهات، جاء بها تامر محمود 29 سنة من منشية ناصر ليبيعها فى وسط المدينة.لا يرى الشاب أى جديد فى سلوك الشرطة مع المواطنيين حيث أوقفته أكثر من مرة بعد الثورة فى كمائن عدة وتعرض للحبس رغم أنه غير مسجل خطر، حسب وصفه. حاصل على معهد حاسب آلى ويعمل بائعاً متجولاً منذ تخرجه. معظم المتظاهرين من الشبان. يرتدى بعضهم كمامات بيضاء لتقيهم شرور الغاز المسيل للدموع. أقنعة التنفس عادت إلى الشارع من جديد. البعض يستعد للتعامل مع قوات الشرطة، يقذفونها بالحجارة من وراء حجاب. يستمر تبادل القذف لدقائق ويخلف مصابين يتم نقلهم بسرعة إلى المستشفى الميدانى ذى الإمكانيات البسيطة، فتقوم سيارة الإسعاف الموجودة بالمكان بنقل بعض المتظاهرين المصابين إلى أقرب مستشفى. كر وفر بشارع يوسف الجندى دام لساعات، لكن فى تمام الحادية عشرة مساء انتقلت الأحداث إلى شارع قصر العينى، وقف أحد الشبان بناصية شارع محمد محمود عند سور الجامعة الأمريكية ينادى فى شباب الألتراس: «يا رجالة يا رجالة، بيهجموا علينا من الناحية التانية»، يطلب الشاب مدداً إلى موقع الاشتباك الآخر بشارع قصر العينى بالقرب من مجلس الشورى ومجلس الوزراء. بسرعة يستجيب له بعض الملثمين، يحملون حقائب على ظهورهم، يضعون بها زجاجات مولوتوف، حسب وصف زملاء لهم. يهرولون ناحية موقع الاشتباك، بجوار مبنى المجمع العلمى، صعد بعض الصبية المتظاهرين أعلى الحواجز الأسمنتية وأشار بعلامة النصر فى وجه جنود الأمن المركزى فيما تتصاعد الأدخنة من مدرسة الثانوية بنات بعد السيطرة على الحريق. يسأل أحدهم: «هل بدأ الماتش؟»، فى إشارة منه إلى بداية وقوع اشتباكات. دقائق قليلة وبدأت الاشتباكات بشارع قصر العينى تبعها إطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين. هربوا منها نحو أبواب مترو الأنفاق، وبالداخل كانت العطسات وحالات الإغماء تتصاعد. مصطفى على، شاب جامعى من شبرا، يرتدى قناعاً واقياً من الغازات الكيماوية. جاء به إلى هنا تحسباً لوقوع أى اشتباكات مع الشرطة. أهداه خاله إياه منذ أكثر من عام.فقد أحضره الرجل معه من السعودية عندما كانت توزعه المملكة على سكان المناطق القريبة من العراق عقب حرب الخليج الثانية. أصدقاء مصطفى سعداء جداً بهذا القناع غريب الشكل، فيتبادل كل منهم ارتداءه والتجوال به قليلاً. هذا القناع مكّن مصطفى من الوجود على خط النار فى أحداث محمد محمود العام الماضى. يمنع القناع دخول أى غازات أو أدخنه إلى الرأس، محكم جداً. مكّنه أيضاً من الإمساك بقنابل الغاز المسيل للدموع وإلقائها على أفراد الشرطة مرة أخرى العام الماضى. يقول مصطفى: هذا يختلف عن الأقنعة الصينية الأخرى التى انتشرت بالأحداث لأنها لم تمنع الغاز من إصابة العين والأنف. الكثير من المتظاهرين حرصوا على إحضار أقنعة أحداث العام الماضى تحسباً لأى ظروف، فى محاولة منهم لاستعادة الذكريات بالشارع، فيما ارتدى آخرون كمامات بيضاء. أعضاء المستشفى الميدانى حملوا أيضاً زجاجات «الخل» وقام بعضهم «برش» أوجه المصابين باختناقات جراء الاشتباكات المتقطعة التى استمرت طوال الليل وساعات الصباح الأولى من اليوم التالى.