سُحب الدخان تغطى أجواء المنطقة. صبية صغار يغلقون الطريق بإطارات السيارات المشتعلة. أهالى جزيرة القرصاية يحتلون الشارع. سيدات متشحات بالسواد يجلسن بزاوية من شارع البحر الأعظم أمام مدخل معدية حلقة السمك. باب الجزيرة الرئيسى وطريقها الوحيد للاتصال بالعالم. معدية الجزيرة قديمة تعمل بطريقة يدوية عن طريق شد جنزير و«بكرة» دوّارة. لا تعرف التوقف، تعمل لمدة 24 ساعة، بدونها يكون الأهالى فى كوكب آخر رغم وجودهم بوسط القاهرة. «الوطن» زارت القرصاية وقت الأحداث والتقت أقارب قتيل الجزيرة محمد عبده حتاتة والمزارعين الذين احترقت عششهم بعد الفجر. ثمن الانتقال من وإلى جزيرة القرصاية 25 قرشاً. عامل المعدية يحفظ الأهالى عن ظهر قلب. 50 متراً فقط تفصل الجزيرة عن اليابسة. محيط مرسى المعدية توجد به دكك خشبية ومظلة متهالكة. عند المرسى يتفرع الطريق إلى اثنين، الأول يقودك إلى عزبة الفلاحين بالجهة البحرية من الجزيرة والثانى إلى عزبة الصعايدة. المنطقة التى تسببت فى الأحداث والمتنازع عليها تقع فى الشمال الشرقى من الجزيرة. خلف قصر رجل الأعمال الشهير محمد أبوالعينين. الطريق إلى قطعة الأرض عبارة عن مدقات طينية ضيقة تتسع بالكاد للمارة، محاطة بالبوص والأحراش. حزب الدستور مطبوع على حوائط منازل القرية الحجرية. تعود الأحداث إلى ثلاث سنوات عندما هاجمت قوات من الجيش الجزيرة وردمت جزءاً منها، ثم تركت المكان تماماً. وهو ما شجع عبدالفتاح عبدالمعطى وأشقاءه على استصلاح قطعة الأرض التى تبلغ مساحتها فدانين ونصف الفدان. نصيب كل منهم أكثر من 5 قراريط. بجوار الأسلاك الشائكة التى وضعتها قوات الجيش جلس الرجل الستينى ينظر إلى عشته التى تم إحراقها بتحسر شديد، كان يبيت فيها مع أحد أبنائه وقت أن اقتحمتها القوات وهدمتها عن آخرها وحطمت ما بها من أجهزة إلكترونية. قطعة الأرض مزروع بها باذنجان وبرسيم، مشهد قتل الشاب محمد حتاتة لم يَغِب عن الرجل ولا يعرف مصيره ولا أين جثته، قال الرجل فى لهفة «ولّعوا فى أُوضنا بالحاجة اللى فيها والبطاطين وضربوا فى المليان»، ليس للشاب ناقة ولا جمل فى الأحداث، سوى أنه كان موجوداً بالقرب من قطعة الأرض بالقارب الذى يصطاد به. لفظ أنفاسه الأخيره فور ضربه بالرصاص، هكذا قال الرجل. وأضاف أنه يوجد عدد كبير من المصابين والمعتقلين، رغم عدم مقاومتهم للسلطات. «ورثتُ البيت والأرض عن جدودى. منازلنا لا يوجد عليها أى خلاف».سبب النزاع الوحيد هو قطعة الأرض فقط. بجانب مزرعة وفيلا رجل الأعمال أحمد البدوى. يصمت الرجل قليلاً ثم يقول فى تعجب: «فيلا محمد أبوالعينين تقع شمال قطعة الأرض التى نزرعها ونأكل منها عيش لكنهم لا يقتربون منها إطلاقاً (اللى له ضهر ماينضربش على بطنه). أبوالعينين كان دائم التردد على زيارة أهالى الجزيرة قبل الثورة، لكن بعد ذلك اقتصرت زياراته على فيلته فقط. عكْس الفنان محمد عبلة الذى يوجد بيننا باستمرار. كنا ندفع للحكومة 700 جنيه إيجاراً سنوياً عن كل فدان، لكن منذ 3 سنوات لم تحصّل منا أىّ مليم، بحجة أن الأرض ليست ملكنا. رغم أن المحكمة قضت بأحقيتنا فى الحصول على الأرض». بيت الرجل مبنى بالطوب الأحمر، حوائطه مطلية بألوان زاهية. لا تختلف عن الموجودة بالمدينة. له ولدان و4 بنات، بعضهم متزوج. يحرص الرجل على تربية الطيور والماشية بحظيرة ملتصقة بالبيت. زوجته سيدة مسنة نال منها مرض السكر وتسبب فى حدوث مضاعفات مما جعلها لا تتحرك من صالة المنزل وأفقدها نعمة النظر. بجوار منزل عبدالفتاح عبدالمعطى يوجد أحد محلات البقالة التى لا يتجاوز عددها بالجزيرة 7 محلات، تختلف عن التقليدية المعروفة بأى قرية أو مدينة، فقد اتخذ الرجل من بيته مكاناً لبيع سلع وأغذية، رغم أنه لا توجد أى أعمدة إنارة بطرقات الجزيرة إلا أن أهلها ألفوا ذلك ولا يخافون منها إطلاقاً، حيث لا يوجد بينهم الغريب. «أسرة واحدة»، هكذا يقول إسماعيل عبدالمعطى. الجزيرة بها 4 مساجد لاتخضع لإشراف وزارة الأوقاف، أكبرها على الإطلاق يوجد بشمال الجزيرة هو مسجد «الرحمة» الذى تزينه مئذنة مرتفعة. وأنوار متسقة. وحسب تأكيدات الأهالى فإن عدد سكان الجزيرة يبلغ 7 آلاف نسمة. بإمكان أى أحد بالجزيرة رؤية سُحُب الدخان التى تتطاير بشارع البحر الأعظم. الأخبار تتوارد من الخارج بسرعة. معظم سيدات القرية ترتدى كل منهن ملابس سوداء على فقيدها الذى قُتل صباح أمس الأول. بيته يوجد فى الجزء الجنوبى من الجزيرة «عزبة الصعايدة»، وهو بعيد تماماً عن منطقة النزاع، لكن القدر قاده إلى هناك حيث قُتل. على الشاطئ الغربى من الجزيرة يشم زائر المنطقة رائحة كريهة لحيوانات نافقة وقمامة و«مياه مجارى»، من التى تُصرف مباشرة فى نهر النيل. سقطت الجزيرة من حسابات المسئولين تماماً، هكذا يقولون رغم توفيق أوضاعهم وامتلاكهم لوصلات المياه والكهرباء. طلبوا من محافظة الجيزة إنشاء كوبرى مشاة لم يستَجب لهم أحد. الأهالى بالجزيرة ممتعضون من الإعلام بسبب اتهامهم بأنهم بلطجية وأنهم اعتدوا على قوات الجيش، ويرون أنه لا ينقل الحقيقة، لذلك تعامل بعض الأهالى مع الإعلاميين داخل وخارج الجزيرة بالحيطة والحذر وأحياناً برفض إجراء مقابلات معهم أو السماح بتصويرهم. محمد جلال صياد من أهالى عزبة الصعايدة مصاب بطلقات خرطوش خلال الأحداث حسب وصفه، كان موجوداً فى طرقات الجزيرة، وروى أن القوات تعاملت معهم بعنف شديد غير متوقع، رغم أنهم ليسوا من المجرمين، حيث بدأ الهجوم عقب صلاة الفجر، وقد تم ضربهم دون توجيه أى إنذار. الصياد القتيل صديقه وجاره وزميله فى المهنة قُتل بجانبى.. يقول جلال إن دمه لن يذهب هدراً. شقيقة القتيل الطفلة أبكت أهل الجزيرة بعد صراخها المتواصل، وبكائها الذى لم ينقطع. كانت تصرخ من قلب القلب «أخويا حبيبى أكتر واحد كان حنيّن على. قتلوه وسايبين الإرهابيين فى سيناء، قتلوه وهو عريس، فرحه كان بعد شهرين». جارة لها أمسكت بيدها وربتت على كتفيها واصطحبتها إلى بيتها، لأن منزلهم أبوابه موصدة، ولن يُفتح حتى تفرغ والدتها وأبوها من دفن أخيها بالصعيد فى أسيوط. فى زاوية من الشارع وقف ابن عم محمد عبده يبكى على فراقه. لا يصدق ما حدث. ولا يجد مبرراً لقتل الشاب صاحب الثمانية والعشرين ربيعًا. ورث مهنة الصيد عن أبيه. «الوحيد اللى كان شايل أبوه، عشان كده عمى بيكلم نفسه بره».. وتابع لم يكن يتبق على زفافه سوى شهرين، لكنه زفّ إلى القبر، بأى ذنب قتل؟ لا نعلم. يتركون البلطجية وقطاع الطرق بالشوارع والإرهابيين بسيناء ويقتلون شاباً شريفاً لا يأكل إلا بالحلال. لا يصحو إلا فى جوف الليل لجلب لقمة العيش. بيوت عزبة الصعايدة كثيفة جداً ومتجاورة، لدرجة أنها تُشعِر من فى المكان بأنه داخل مساكن شعبية. سخونة الأوضاع داخل الجزيرة لا تقل عن خارجها بشارع البحر الأعظم. فلا تمر نصف ساعة دون إغلاق الطريق أمام حركة مرور السيارات، احتجاجاً على مقتل ابن الجزيرة. وحتى الإفراج عن المعتقلين، ولم تفلح مناشدات لواءات بالجيش ووزارة الداخلية فى تهدئة غضب الأهالى. والصبية الذين قادوا بأنفسهم عمليات إغلاق الطريق بإشعال الإطارات بأنفسهم فى نهر الشارع.