انتشرت فى أيامنا هذه الدعوة لتجديد الخطاب الدينى، وكثر الكلام شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، والمشهد العام اليوم الذى يسيطر على فرقاء العالم العربى لا تزال تحركه -دون وعى- المعارك القديمة على كل الساحات. وفى تصورى أن تراث الفرق القديمة المتناحرة الذى يملأ علم الكلام لا يزال يحكم العقل الجمعى، وهو أحد الأسباب الرئيسة فيما تعانيه أمتنا اليوم؛ مما يدعو إلى التفكير جدياً فى تجاوز هذا النوع من التراث التناحرى. كيف؟ عن طريق إعادة استئناف النظر فى تفسير العقائد فى حدود العقل البرهانى الذى يعتمد أدوات العلم، ومن هنا تظهر أهمية البحث عن فلسفة جديدة للدين تتجاوز علم الكلام، وتستفيد من المكتسبات العلمية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، وتدع وراء ظهرها معارك الماضى، وتدخل فى معارك العصر بأدوات عصرية، وتفسر الكتاب بالكتاب، أى تفهم القرآن فى ضوء القرآن؛ فالقرآن وضع قواعد فهمه فى داخله، ويجب علينا استخراجها بعيداً عن عقل الفرق وعقل الأهواء. هنا أتذكر أنه منذ حوالى ربع قرن شاركت فى مؤتمر تحت عنوان «نحو علم كلام جديد»، عقدته كلية أصول- جامعة الأزهر- القاهرة، بالتعاون مع الجمعية الفلسفية المصرية، فى الفترة (15 - 17 يوليو 1991)، بمركز الشيخ صالح كامل للاقتصاد الإسلامى بجامعة الأزهر. وكانت مشاركتى بورقة بحثية بعنوان «من علم الكلام إلى فلسفة الدين». وكانت الفكرة المحورية التى قامت عليها مداخلتى هى أنه لا بد من تجاوز «علم الكلام» كليةً إلى مجال تداولى مختلف لتأسيس خطاب عقائدى جديد، ينقل العقول من ساحة «التنوع المميت» إلى ساحة «التنوع الخلاق»، ويحقق المعنى الحقيقى للتوحيد فى نقائه الأول كما تجلى فى عصر نزول القرآن وفهمه تحت رعاية وتبيين النبى صلى الله عليه وسلم يقيناً لا ظناً، ويجيب بفاعلية على إشكاليات وتحديات العصر العقائدية فى ضوء المكتسبات العلمية والنظرية التى تحققت بالتطور النسبى للعلوم الاجتماعية والإنسانية والعلوم الطبيعية والرياضية. وهذا المجال التداولى المختلف الذى يمكن له أن يسحبنا من معارك وعقول الماضى، هو «فلسفة الدين» كمجال معرفى يعتمد منهج العقلانية النقدية التى تبحث عن ماهيات ومقاصد الدين فى حدود العقل البرهانى وحده، مخلفة وراءها المنهج الجدلى لعلم الكلام الذى مات كعلم، لكن لم تمت العقائد؛ لأن مناهج الاستدلال الجدلى التى يستخدمها علم الكلام، وطرق التفكير التى تحكمه، قد تجاوزها الزمن بقرون، فهى طرق جدلية تقوم على مقدمات ظنية، بينما العلم المرشح لكى يحل محل «علم الكلام» هو «فلسفة الدين» التى بدأت كعلم دقيق من حيث الموضوع والمنهج والنسق فى نهاية القرن الثامن عشر وليس قبل ذلك؛ لأنها برهانية عقلانية، وليست جدلية دفاعية مثل علم الكلام القديم، وبإمكانها تقديم «رؤية للعالم» بينما علم الكلام لم يقدم رؤية متكاملة فى أى من فرقه أو مذاهبه القديمة، بل برر العقائد المتنوعة فى إطار غير نسقى، ولم يقدم نظرية متسقة كلية للعقائد فى إطار رؤية متكاملة للعالم. وحينئذ، عام 1991، لم تكن هناك أية رسالة جامعية عن «فلسفة الدين» بالمعنى الدقيق، وكان الخلط كبيراً بينها وبين الفلسفة الدينية والفلسفة الإسلامية. وفى هذا الوقت كنت فى بداية انشغالى برسالتى للدكتوراه عن «فلسفة الدين»، وهى -حسب كل الببليوغرافيات- أول رسالة أكاديمية فى العالم العربى يكون هذا عنوانها وهذا موضوعها، ومنهجها هو المنهج العقلانى النقدى وليس المنهج الجدلى الكلامى. لكن الأمر مختلف فى الغرب؛ حيث أصبحت «فلسفة الدين» حقلاً معرفياً مستقلاً، ومبحثاً فلسفياً منفصلاً، له حدوده، ومناهجه، وموضوعاته، منذ نهاية القرن الثامن عشر، أى منذ ما يزيد على قرنين من الزمان. وهذا ما سبق أن تحدث عنه كاتب هذه السطور فى كتاب قديم له بعنوان «مدخل إلى فلسفة الدين»، صادر منذ أكثر من عشرين عاماً. وفى هذا الكتاب أوضحت أن الإسهامات العربية فى فلسفة الدين حتى تاريخ تأليف هذا الكتاب (1994م) كانت لا تزال فقيرة، وفى كثير من الأحيان تخلط بينها وبين علم الكلام أو اللاهوت، أو بينها وبين الميتافيزيقا (=علم ما بعد الطبيعة)، أو بينها وبين علم مقارنة الأديان أو علم تاريخ الأديان، وفى بعض الأحيان تخلط بينها وبين الفلسفة اليهودية أو المسيحية أو الإسلامية أو الفلسفات الدينية بشكل عام. وفى الواقع أن «فلسفة الدين» مبحث مستقل عن كل تلك المجالات، وقد بدأ كمبحث فلسفى نسقى ومنظم، مع كانط فى كتابه «الدين فى حدود العقل وحده». لكن -ولا شك- كان لهذا المبحث إرهاصات قبل ذلك؛ حيث كان للفلاسفة السابقين غالباً نظرات وتحليلات فلسفية لبعض الموضوعات الدينية، لكنها لا ترقى لتشكل وتكوّن فلسفة للدين متكاملة العناصر والأركان ومحكمة المنهج وتعتمد على العقل وحده ومبرأة عن الانحياز أو الدفاع اللاهوتى أو العقائدى. ويمكن أن نلتمس تلك الإرهاصات الجزئية فى إطار علوم أخرى مثل الميتافيزيقا، والأنطولوجيا (علم الوجود)، وعلم الكلام، واللاهوت، وربما حقل التفلسف العام. الحديث لم يكتمل..