يزن كلماته بميزان الحكمة، يفكر لكى لا يكون جارحاً، يظن أن الفائدة من الكلمات هى أن تبنى، لا تهدم، لا يهتم بالأشخاص، فقط يبحث عن الأفكار، لا ينظر فيمن قال بل ينظر فيما قيل، لا يسعى إلى السجال بل يتعجل النقاش كمن يسرع إلى ساحة يونانية قديمة على رأسها فيلسوف، ساحة نقاش تهتم بقيم الحق والعدل والحكم الرشيد والمستقبل والإنسان، لا يلتفت إلى الماضى إلا بقدر ما يدفع إلى الأمام، ينظر إلى الحاضر بعين الغد، لديه يقين بهذا الشعب، يدرك، أو قل يعتقد، بل قل «يؤمن بكتلته الحية التى يراها توهجت مرتين فى يناير ويونيو».. ما زال يملك رهاناً عليها، ترى فى قسمات وجهه يقيناً بقدراتها وأنها قادرة على الإفصاح عن نفسها، حتى لو حضرت الوثنية السياسية أو المصالح المملوكية، يقطع بأن هذه المصالح المملوكية فى المجتمع «تنتحر» وتقتل طاقة الحلم داخل هذا الشعب، كما يجزم أيضاً بأن الوثنيين السياسيين يظنون أن الناس بين أصابع فضائياتهم أو أجهزتهم أو أموالهم، فإذا كان ذلك كذلك -بحسبه- فليُحيوا ويُميتوا ويهدّئوا ويثوّروا، يحذّر بلا جدال من النغمة الاحتفالية السائدة ويضع المبدأ «الاحتفال مبرر للإلهام ولكن على شىء حقيقى ذى قيمة، أما إذا كان غير ذلك فهو إلهاء».. يبتغى الصالح رغم أنه من وجهة نظرى لن يفلت برأيه من هوس المتطرفين على الجانبين ولا جهل المماليك ولا وكلاء المصالح؛ لأنهم يخشون كلمة الحق ويخافون من سلطان العقل ولا يحبون كل مفكر متدبر ناصح مخلص أمين.. هذه كلماتى وإليكم كلمات الدكتور مصطفى حجازي، مستشار رئيس الجمهورية السابق. ■ إذا سألنا سؤالاً بشأن المستقبل.. فهل نحن مجتمع مشغول ب«كيف» فقط؟ - أسئلة المستقبل تورثه قدراً كبيراً من التململ أشبه بالنفس اللوامة والنفس المتطلعة ولكن بشكل منهجى، وهذا ما قلته حينما وكلت بالعمل مستشاراً فى المساحة الاستراتيجية فى رئاسة الجمهورية، وما بعدها قلت نحن فى حاجة إلى أربعة مسارات تجيب على أسئلة المستقبل، المسار الأول أن نبدأ جادين فيما يسمى «صناعة عقل مؤسسى» لهذا الوطن والعقل المؤسسى له شروط وأدوات علمية وملامح، أول وأبسط تجليات العقل المؤسسى أن يوجد عقل اقتصادى مؤسسى يسمى ككل دولة ناهضة «مجلس وطنى اقتصادى»، البرازيل سمته «مجلس اقتصادى اجتماعى» لكن له شروط، ولكن الأهم من الشروط المهام والصلاحيات لا يتنازع عليها لأنه عقل للدولة مثل صانعى وجدان هذه الأمة، نجيب محفوظ، يحيى حقى، أحمد شوقى مثلما صنعوا وجدان الشعب المصرى، فكان أقل شىء فعلته سلطة المجتمع أنها أفسحت مساحة لحركة هؤلاء دون أن تصطدم معهم، نحن فى حاجة إلى مجلس اقتصادى يقوم على الاقتصاد له مهام وصلاحيات التفكير بروح العصر وباستشراف نقلات لا يغامر عليها أسقف إلحاح الحاجة، ومن هنا أوضح أن العقل المؤسسى للدولة يستشرف نوع الحلم ابن العصر لهذه الأمة لأنه ليس كل حلم ابن عصره، المسار الثانى هو مسار الأزمة وإدارة الأزمة، نحن فى وطن مأزوم حتى لا يتصور أحد أن العقل المؤسسى بما أنه عقل يحتاج إلى قدر كبير من الروية والهدوء، والإجابة عن الأسئلة بعمق، وألا يكون متأثراً إلا بروح العصر والتزامات هذا العصر وكيف ينتشل هذه الأمة إلى مصاف أو مشارف العصر الجديد بغض النظر عن حالها الحالى، المستقبل أصبح علماً الآن وهناك علم اسمه المستقبليات فهناك فلاسفة يتحدثون فيها وعلماء واستراتيجيون، مستوى العقلية التى تهيمن على المساحة الأولى، التى تسمى العقل المؤسسى، نوعان من التفكير وليس التخطيط من بينهما ولكن التخطيط يلحقهما، التفكير الفلسفى ثم التخطيط الاستراتيجى، عندما ننتقل إلى المسارات الأخرى، التنمية وإدارة الأزمة، فنحن فى وطن مأزوم بالمعنى المادى والمعنوى للأزمة، لدينا أزمة ثقة شديدة فى المجتمع تصل إلى مشارف «البارانويا» التى يمكنها أن تجعل المجتمع يشتعل فى أى لحظة لأى سبب ويحترق داخلياً ويعود إلى الفوضى التى وضع بذورها مبارك، نحن مجتمع لا يثق فى غده أو فى من يحكمه أو فى جاره، هذا الفائض من التوتر لا تستطيع أن تبنى عليه حراكاً للمستقبل لأنه لا بد أن المجتمع يسكن ويهدأ نفسياً وتبنى جذور ثقة من نوع ما، مسار الأزمة يحتاج إلى الإقرار بمدى إلحاح الأزمة وأن نرتبها على النحو المطلوب أن ترتب عليه، فلو تصورنا جدلاً أن مبارك بكامل هيئته من أول الدكتور عاطف صدقى وحبيب العادلى، من أول عصر مبارك إلى آخر عصره، اجتمعوا جميعاً لكى يديروا مصر الآن فى 2015 بنفس أدواتهم وبنفس قدراتهم من وجهة نظرهم القمعية المستبدة والتدليسية والاقتصادية التى لم تخلُ من وجاهة فى حلول اقتصادية ما -سأوضح الجانب السلبى والجانب الإيجابى- لو اجتمعوا فى هذه اللحظة لن يستطيعوا أن يديروا مصر لأن مصر 2015 بها تغير محورى. ■ هل ترى أن هذه الأفكار لم تعد هناك بيئة خصبة لاستقبالها؟ - يوجد الآن طبقة شريكة فى الحكم «طبقة الحكام الجدد» الذين خرجوا فى «يناير ويونيو»، شاءت هى أم أبت أو شاء من فى السلطة أو أبى، هى تشارك فى سلطة الحكم. ■ هل سترسم هذه الطبقة المستقبل؟ - مضطرة، وكل تململ وتأخر فى المستقبل نتيجة أنها لم تستطع أن تقرر لنفسها، أن تقرر أنها تقف على قدميها، وأنها تؤجل الدور المنوط بها لتصورها بأن ليس لها دور لأن هناك من يقف فوقها. ■ وهل تدخّلها سيكون خشناً أم عاقلاً؟ - هذا السؤال سيجيب عنه المستقبل. هى أعقل مما يتصور فى شأنها وقد تكون خشونتها بدرجة جفاء لا تعذر فيها.. ليس بالضرورة الخشونة صداماً. ■ هل يمكن للعوام أن يفرضوا كلمتهم على هذا التدخل؟ - سيوطأ له لكن سيبقى له من حمى هذا الوطن، وانتصر له، وأن للوطن رباً يحميه.. يقينى أن طاقة العقل التى أراد الله سبحانه وتعالى أن تتجلى فى المجتمع، لقد قرأنا جزءاً من المستقبل على صفحات التحرير لكننا لا نحب أن نقرأها فنحن نحب أكثر أن نستنيم إلى أحاديث النميمة، «التحرير» كان فيه مستقبل فكل من وُجد فى ميدان التحرير ثائراً متنسكاً متقرباً إلى الله لرغبته فى مستقبل أفضل، وُجد فى اللحظة نفسها على دخول التحرير من كان يقوم بكسر محل تجارى ليسرقه، والدهماء كانوا موجودين أيضاً وأصحاب المصالح الخاصة والمماليك فى قلب الحالة، المماليك يريدون أن يستغلوا هذه الطاقة الإيجابية لصالحهم، هؤلاء المماليك الذين أزيحوا فى 2013، وأنا سميتهم «مماليك التنظيم ومماليك النظام»، أزيحوا فى 2011 ويبقى أى بقية من بقايا مملوكية، المماليك لا يخلون من ثنائية الجهل والكبرياء لأن المملوك دائماً ثقافته ثقافة القوى لا يعتمد على العقل ولديه قاعدة هى «الحكم لمن غلب»، أى إن الشرعية لديه شرعية الغلبة والقوة والقبول بشرعية الغالب، أى «البقاء للأقوى» بمعنى آخر. ■ وماذا يعنى ذلك بالنسبة لهم؟ - هذا المعنى يهيمن على أنفسهم ولا يستطيعون أن يفهموا غيره ولا يستطيعون أن يقرأوا الحياة بدونه حتى وصلت الحالة لدى تنظيم الإخوان إلى درجة من درجات الجنون، لأن التنظيم بمعايير قراءته فى الحياة كانوا يستخدمون تعبيرهم الأثير وهو «التمكين»، أى الغلبة، وهو لا يستطيع أن يفهم أن هناك من لا يقبل بغلبته أو يناطحه غلبته أو أنه فى لحظة من اللحظات سيفقد القدرة على تسيير المستقبل لأنه غلب، وأنه تصور هذا ومبارك أيضاً، مبارك كان يحكم بهذه القاعدة، فالثقافة المملوكية كان مبارك يفعلها مشفوعة بقدر كبير من اللياقة الاقتصادية والتميز فى الأداء فى بعض الأحيان والحرفية ووجوه مقبولة ومحاولات باللحاق بركب العالم فى أمور وكان يغلف صناعته المملوكية بشىء من الرقة. ■ وماذا عن الإخوان؟ - الإخوان أحبوا أن يعودوا إلى نفس الأمور بشكل فج، الاختلاف هنا فى البيئة الحاضنة، فهم يتصورون أن التقرب إلى الله بقتل منظومة القيم، الكثير منهم عندما يظهرون فى وسائل الإعلام المختلفة يقول للناس إنه يتحدث باسمهم، هم يحاولون مخاطبة الجزء المعوج من الفطرة عند الناس لأنها ترى مصلحتها فى أمان فى ظل هذا الاعوجاج، والأخطر هنا شأن العائل الآثم إذا استمر يبنى كل تحركاته وتصوراته بأنه لن يتحرك إلى المستقبل إلا إذا أمِن انتكاس من نضجوا ورشدوا فلن ينتكسوا ولن تأتى حركته للمستقبل ولكن سيأثم ويحجر عليه..