إنه العام 87 هجرية.. لقد تم فتح سمرقند على يد القائد قتيبة بن مسلم الباهلى.. يبدو فى المشهد كبير كهنة المدينة يجلس متوتراً أمام قاضى القضاة «جميع».. الأمر جلل.. ولم يستبعد هذا الكاهن أن ينتهى بقطع رأسه!! لا بد أنه قد تسرع فيما فعل.. ينظر إلى جواره ليجد القائد المنتصر قتيبة.. ما الذى أتى به هنا؟! كانت الجلسة قد عقدت للنظر فى الشكوى المقدمة من كهنة المدينة ضد الجيش المنتصر! لقد أرسل كهنة المدينة العريقة شكوى لأمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز يتهمون فيها الجيش بأنه اجتاح المدينة دون أن يدعوهم إلى الإسلام ويمهلهم حتى ينظروا فى أمرهم!! لم يكن الكهنة ينتظرون أن ينظر إلى شكواهم أحد؛ فما من منتصر ينظر فى شكوى مهزوم، إنما قصدوا أن ينجوا بأنفسهم من بطش الجيش الأموى المنتصر. ينادى القاضى فى حسم وقوة: ما قولك يا قتيبة؟! رد القائد المنتصر: الحرب خدعة يا سيدى القاضى.. وهذا بلد عظيم وكل البلدان من حوله كانوا يقاومون ولم يدخلوا الإسلام ولم يقبلوا بالجزية. يقول القاضى بالقوة نفسها: - يا قتيبة.. هل دعوتهم للإسلام أو الجزية أو الحرب؟ - لا، إنما باغتناهم كما ذكرت لك. فما كان من القاضى إلا أن قال: أراك قد أقررت، وإذا أقر المدعى عليه انتهت المحاكمة. يا قتيبة ما نَصر الله هذه الأمة إلا بالدين واجتناب الغدر وإقامة العدل.. ثم يعتدل فى جلسته ويقول: قضينا بإخراج جميع المسلمين من أرض سمرقند من حكام وجيوش ورجال وأطفال ونساء وأن تترك الدكاكين والبيوت، وألّا يبقى فى سمرقند أحد من المسلمين. على أن ينذرهم المسلمون بعد ذلك قبل الدخول إلى المدينة!! لم يصدق الكهنة أنفسهم.. حتى بعد ما رأوا بأعينهم جيوش المسلمين وهى تخرج من المدينة فى الليلة نفسها. لم يهمل الحاكم شكوى أحد الرعية.. بل حوّلها للقضاء.. وكان الحكم القضائى نافذاً.. فكان أول جيش منتصر يخرج من بلد دخلها بحكم قضائى. القصة لا تحتاج إلى شرح آخر.. فما قامت أمة واستمرت إلا كان قضاؤها هو صمام أمانها ودليل عدلها حتى إن كان الحكم ضد الدولة نفسها!! فهكذا كانوا رعيةً وحكاماً!! وللحديث بقية إن شاء الله.