(1) لم يكن الأمر يحتاج إلى كثير من الذكاء ليفهم أنهم لن يستجيبوا لنصائحه التى يحاول أن يلقنها لذلك المريض فى استقبال المستشفى الجامعى، فالهمس يدور بين أقاربه أنهم سيذهبون به فى الصباح الباكر إلى أحد المراكز الطبية الخاصة باهظة التكاليف والذى تملأ إعلاناته شاشات التلفاز. يشعر بالإحباط يملأه وهو فى بداية حياته العملية. يستمر فى إلقاء التعليمات على المريض، ولكن دون حماس هذه المرة. سيلقون بالورقة التى بها الدواء فى أقرب سلة قمامة. لا بأس، فقد قام بما يرضى ضميره. المشكلة أنهم لا يرون ذلك على الإطلاق. سيتحدثون عن إهمال الأطباء وجهلهم غداً صباحاً.. وسيلعنون كل الأطباء (ما عدا الطبيب الذى سيذهبون إليه فى عيادته غداً بالطبع) لا بأس، فقد اعتاد ذلك. (2) إنها ريهام سعيد مرة أخرى. الحلقة تدور حول الإهمال الطبى، فقد توفيت طفلة أثناء إجرائها جراحة بسيطة فى أحد المراكز الطبية الخاصة. إلى هنا والأمر يخص النيابة العامة التى تستعين بأطباء لبيان إذا ما كان هناك إهمال من الطبيب أو من طاقم العمل. ولكن المذيعة الشهيرة يجب أن تترك بصمتها، فتذهب إلى المركز الطبى، وتقوم باستفزاز الأطباء الموجودين، ثم تذهب إلى أهل الطفلة المكلومين. وينتهى الأمر بزيارة قبرها ليلاً فى مزاج سوداوى مريض. سوف تذاع الحلقة، وستجد نسبة مشاهدة عالية! فالإعلانات أمر ينبغى أن نأخذه فى الاعتبار حين نحقق فى حادثة من هذا النوع. «مش ندمانة إنك بتعملى كده؟!» (3) حينما يُصدر مجلس كلية الطب بجامعة عين شمس قراره بإغلاق استقبال المستشفيات الجامعية المعروفة شعبياً ب«الدمرداش» لحين توفر حماية شرطية للمستشفى والأطباء.. فينبغى ألا يمر الأمر مرور الكرام! لقد أصبح الأمر متكرراً.. إنه ذلك المريض الذى حضر فى الثالثة صباحاً ومعه أهل الحى بأكمله. العديد من الآراء التى تخرج من كل الأفواه فى نفس الوقت، والطبيب الشاب فى الاستقبال لا يتمكن حتى من إجراء الكشف الطبى على الحالة، فيطلب من أهل المريض أن يُخلوا المكان ليتمكن من ممارسة عمله. يرفض أهل المريض تركه بمبررات مختلفة نصفها عاطفية من مبدأ «نعمل الواجب» ونصفها يعود إلى عدم ثقتهم فى الطبيب الشاب من الأساس. دائماً ما تجد ذلك العبقرى الذى يفهم فى كل شىء بدءاً من الطب وحتى اختراع الذرة. لن يمر الأمر حتى يدلى بدلوه، ثم يشعل سيجارته فى هدوء ليبين للجميع كيف أنهم حمقى بدونه!! سيتطور الأمر لمشاجرة معتادة يبدأها أحد أقارب المريض المتحمسين، وسينتهى الأمر بتكسير أجزاء من الاستقبال.. إذا ما تمكّن الطبيب من الخروج سليماً!! (4) المنظومة بالكامل تحتاج إلى تعديل، فالخطأ لا يقع على الشرطة وحدها -على الرغم من أنها تتحمل الجزء الأكبر فيه- ولكنه خطأ تراكمى، فالطبيب المقيم حديث الخبرة يرى أن أهل المريض ليس لهم حق فى أن يطمئنوا على ذويهم، ويرفض الاعتراف -بوازع من كرامة- بأنه لا يأخذ قراراً فى أى حالة تقريباً، بل هو ينفذ قرار الطبيب الأكثر خبرة والذى لا يراه أهل المريض فى المعتاد، كما يؤمن أهل المريض بأنه مقصر دوماً، والفضل يعود بالطبع إلى ريهام سعيد وأمثالها، فيما تقف الشرطة لتستمتع بما يجرى وكأنهم ينتقمون من الطرفين. (5) سيتحدثون عن التقصير الذى نجده فى المستشفيات، ولكنهم لن يقتنعوا بأنه بسبب نقص الإمكانيات وليس بسبب إهمال الطبيب فى معظم الحالات. سيتحدثون عن الطبيب الجشع الذى يطلب مبالغ طائلة فى عيادته الخاصة. سنوافقهم أحياناً، ولكن التعميم لا ينبغى أن يشمل ذلك الطبيب الذى يتقاضى ملاليم فى استقبال المستشفى الحكومى. سيحدثونك عن حالات الإهمال الطبى التى تحكى عنها ريهام سعيد فى برنامجها، ولكنهم سينسون أو يتناسون أن الطبيب لن يتعمد قتل مريضه ولو كان كافراً، وأن المستفيد الوحيد من حملة إعلامية ضد طبيب أذنب هو الوكالة الإعلانية لبرنامج تليفزيونى!! فلترحموا طبيباً منهكاً ومريضاً بائساً، وليقم كل منا بدوره، حتى لا ينتهى الأمر بأن يموت كلاهما.. وتبقى ريهام سعيد!!