حلم ذووه يومًا بأن يكون مستقبله أفضل من عائلته، ولكن المنطقة الفقيرة الغارقة في الإهمال، التي نبت فيها بشارع اللاسلكي بالمعصرة القريبة من حلوان، أهدرت حلمهم في أن يصبح مثلما تمنوه. يبدأ "يوسف الصغير" يومه بالنظر إلى العالم من حوله عبر نافذة بيته الصغيرة المطلة على شارع ضيق غير معبد.. يبحث في وجوه الماره عن أقرانه حتى يخرج ليلهو معهم ببراءة تتناسب مع سنوات عمره الأربع.. تمر الساعات عليه كأنها دقائق من فرط ما يلقاه معهم من ملامح بريئة لطفولة سمت فوق المشاعر البغيضة كالضغينة والكره. يصرخ في غضب احتجاجي حين يأمره خاله - الذي يحل محل أبيه - بالدخول إلى البيت الضيق ذا المنحدر الكبير، يدخل الطفل بعدما ودع أقرانه ليراهم في منامه متعجلا شروق يوم جديد. رحلة بدأها الطفل يوسف متوسطا خاله وجدته، ساروا فيها للحصول على متطلبات المنزل من السوق الشعبي بسيط الملامح المجاور لبيتهم، يبتعد خاله عن جدته لحركتها البطيئة بعدما أمسك بيد يوسف، لحظات ويريد يوسف الرجوع مرة أخرى لتلمس يداه يد جدته، لا يراه كلًا منهما، لتمر لحظات بعد ذلك الفراق، يدرك بعدها الكبيران سقوط يوسف في بالوعة بالمنطقة أمام كشك لأحد بائعي السجائر. "الواد وقع حوالي الساعة 12 بالليل، وقع عشان بتوع الصرف جم يسلكوا المجاري وسابوا الغطا مفتوح ومحطوش أي احتياطات أمنية".. كلمات بدأ بها محمود شوقي، أحد أصحاب المحلات بالمنطقة الفقيرة، مضيفا "الطفل كان ماشي مع خاله وسته لما وقع، وفرقة الإنقاذ جت علشان تطلعه الساعة 12 الظهر، يعني 12 ساعة الطفل فضل موجود في البلاعة من غير حس ولا خبر.. وفي الآخر عرفوا يطلعوه الساعة 2". لم يستقر يوسف في قاع البالوعة، ولكن جرفته المياه لبالوعة أخرى تبعد عن الأولى 60 مترا.. "فضلنا منتظرين والدة أو والدته بس هما منفصلين ومحضرش حد منهم.. لكن أهل المنطقة كانوا بيتسابقوا علشان يدفنوا الطفل وياخدوا الثواب، وفي الآخر عمه جه وقال أنا أولى بيه.. أنا اللي هدفنه". شهامة "أهل البلد" لم تظهر في هذا الموقف العصيب، بحسب "فيصل" الذي قال "أول ما الواد وقع خاله جري على سواق عربية بيقول له فيه عيل صغير وقع في المجاري تعالي جيبه"، فرد عليه الأخير "ما تنزل إنت تجيبه"، ليستمر الطفل البريء في قاع البالوعة لنصف يوم، دون أن يعينه أحد، اللهم إلا بالاتصال بالجهات المعنية. تنظيف بالوعات المنطقة يتم يومًا بعد يوم، لكثرة طفحها حسبما قال فارس الشحات، الذي حمل جثمان يوسف فور إخراجه من البالوعه، موضحا أن العادة جرت على بفتح سائق سيارة المجاري البالوعات وتركها للجلوس على المقهى واحتساء الشاي وشرب الشيشة، ثم يعود وزملاؤه ل"كسح" البالوعات وإعادتها إلى سيرتها الأولي، دون وضع أي لافتة تنبيهية أو حاجز للحيلولة دون وفاة أي شخص جراء وقوعه في تلك البالوعات المفتوحة. يشرح فارس طريقه إخراج الطفل من البالوعة موضحًا: "جبنا مضخات مياه علشان نجرف الميه ونطلع الجثة بعد ما اتأكدنا أنه مات، كان همنا نطلعه من غير الجثة ما يحصل لها حاجة.. كفاية اللي حصل له". واقعة الاستهتار الذي تسببت في وفاة يوسف، لم تكن الأولى على حد قول "فارس"، الذي أوضح أخاه توفي مع اثنين آخرين بعدما قام أحد "السباكين" بتسليك مجرى المياه ببالوعه، وأثناء ذلك تعرض لحالة إغماء، فحاول أحد أصدقاء أخيه إنقاذه فغرقا سويا، وبدوره حاول أخاه إنقاذ صديقه والسباك، فلاقى نفس مصيرهما في عام 1998، وهي القصة التي عرفت في المنطفة ب"حادثة موت 3 شباب في البلاعة". تتطل إحدى قريبات يوسف من منزل تربطه "سلمه واحدة" بالدور الأرضي كان يقطن فيه الطفل الراحل مع خاله، لتقول "الناس كلها جم سألوا عليه لما مات.. كانوا فين قبل ما يموت؟"، ليقطع كلامها "الخال وجيه" قائلا بكلمات خرجت صعبة التفسير من فرط الدموع التي غلفتها "يوسف لسة ماتدفنش.. ولسة مستنيين نطلع تصريح الدفن بتاعه علشان نروح ندفنه جنبنا في المعصرة الساعة 9 الصبح".