مال للمصريين قد جفت لماحيتهم وانطفأ وهج طرافتهم، وهم المشهورون دوماً بالمرح والفكاهة على مر الأزمان. ربما كان السبب فى البال الذى لم يعد خالياً، وربما كان فى الأوقات المشغولة بالمنغصات بلا عائد نافع، وربما لأن الجميع صار يرى الجميع فى هم مقيم فصار يرى حرجاً فى السخرية. الناس عادة تضحك من الناس عندما يكونون لا مبالين وغير مكترثين وخالى البال، ويرى «برجسون» أن الناس تضحك على الأشخاص عندما يرونهم لا يتصرفون تصرف الإنسان الحر المختار، وإنما يتصرفون تصرف الآلات الصلبة التى لا تملك حرية ولا اختياراً، ثم إن الضاحكين لا بد أن يكونوا هادئين تمام الهدوء حتى يمكنهم الضحك، فالذى فى حالة انفعال لا يضحك، والغاضب لا يضحك، والمبتئس المحبط لا يضحك، والذى هو وحده أو فى حالة عزلة لا يضحك، بل يلزم أن يكون فى مجتمع أو فى صحبة لكى يضحك. فهل أصبح المصرى منفرداً وحيداً مغترباً أو منعزلاً عن مجتمعه وجماعته أو فى حالة مستمرة من الانفعال؟ وهل صار المصريون يشبهون بعضهم ويشعرون أنهم جميعاً لا يملكون حرية ولا اختياراً ولم يعودوا يجدون آخرين مختلفين عنهم وليس لهم منطقهم ولا شكلهم؟! أم أنهم صاروا يرأفون بمن كانوا يسخرون منه ومنهم لأنهم جميعاً صاروا سواءً وأشباهاً وبلا اختلاف وبالتالى لا ضرورة للسخرية منهم؟ هل صار المصريون أضعف؟ فالضحك أحياناً عقاب ونكاية وتأديب وتقويم. نستطيع كمصريين أن نفخر أن أجدادنا فى مصر القديمة هم رواد الرسم الفكاهى أو ما صار يعرف بالكاريكاتير، ولم يكن هذا الفن لينشأ إلا لو كان ثقافة حية لها قبول ونجاح وشعبية. فى أحد الرسومات صورة لأمير وأميرة وهما وافدان لتقديم فروض الطاعة للفرعون، وفيها نرى الأميرة قد تضخم نصفها الأسفل وتأخر فى وضعه عن النصف الأعلى فصار شكلها مضحكاً وساخراً! ربما كانوا يكرهونها وزوجها أو كانوا يسخرون من نفاق الفرعون. وهناك صورة لامراة تتزين فأمسكت المرآة بيدها اليسرى وفى نفس اليد أيضاً أمسكت «الحُق» الخاص بصبغ الشفاه وفى اليد الأخرى ريشة أخرى تطلى بها شفتيها، وكل ذلك فى وضع مضحك، ثم إن هؤلاء الأجداد قد اتخذوا نعتاً لحكامهم مثل تاجر السردين أو النسناس مثلاً. ولقد وصف الشاعر ثيوكريس اليونانى الذى عاش فى الإسكندرية أثناء القرن الثالث قبل الميلاد نزعة السخرية عند المصريين فقال إنهم شعب ماكر لاذع القول روحه مرحة، والحق أن الرجل لم يخطئ فحتى سنوات بعيدة نسبياً كان المصريون ينتجون 27 فى المائة من النكات أثناء مراسم العزاء. وأنجبت مصر سيبويه المصرى، الذى عاش على عهد الإخشيديين ومات فى عام 358 ه، وكان ساخراً مهاباً ومعارضاً عظيماً يخشاه المسئولون، خوفاً من أن تصير كلماته اللاذعة بما فيها من سجع على ألسنة العامة فيفتضحون، ووصموه بالجنون لجرأته وشجاعته، ورغم ذلك، فإن العقلاء لم يصدقوا ذلك عنه، خاصة فيما يظهره من حكمة تكشف تناقضات وعبث الأحوال وساروا خلفه يحفظون ويكتبون ما يقول. شاهد سيبويه أبى الفضل فى موكب عظيم فسأل: ما بال أبى الفضل قد جمع كتابه ولفق أصحابه وحشد بين يديه حجابه وشمر أنفه وساق العساكر؟ أبلغه أن الإسلام طُرق فخرج ينصره أو أن ركن الكعبة سُرق فخرج لهذا الأمر ينكره؟ فقالوا له: صار صاحب الأمر ومدبر الدولة. فقال متهكماً: عجباً أليس بالأمس سرق الأتراك داره، ودكدكوا قراره، وأظهروا عواره حتى أصبح منهم مستتراً ومنهم متحجراً؟ وهم إذ ذاك يدعونه وزيراً؟ صيروه اليوم عليهم أميراً؟! واعجبى فيهم! كيف رضوه ونصبوه؟! بل عجبى منه كيف تولى أمرهم وأمن غدرهم؟