ببقايا الطاقة التي خلفها يوم شاق آخر بعملي كصحفي في أحد الصحف المستقلة، قررت أن أترجل على قدمي من مقر عملي بالدقي وحتى ميدان عبد المنعم رياض، حيث ينتظرني هناك أتوبيس هيئة نقل عام لم يخلف موعده معي يوماً ما، فهو الملجأ الآمن لمعدومي الدخل الذين أزعم أني أحدهم . قررت أن أترجل لسببين، أولهما ضيق ذات اليد، فها هو الشهر قد اكتمل، وكعادتي كل شهر " بحسبها بالربع جنيه من أول يوم عشرة منه، علشان عيب ابقى صحفي واستلف من ابويا، وتكفيني منه دعوة، على اثرها ربنا بييسرلي حد من اصحابي، استلف منه " . ثاني الأسباب، هو يقيني أن " الرزق يحب الخفية "، وكصحفيين، فالرزق بالنسبة لنا قد يتمثل في لقطة يمكن تصويرها بالموبايل أو بالعين، ومن ثم صياغتها ك "خبر"، أو أن تكون تلك اللقطة مفتاح لتحقيق استقصائي أو تقرير وهكذا . قادني رزقي إلى ما سيتضمنه مقالي هذا من توصيف لحالة "العك" اللطيف، التي شاهدتها على كوبري قصر النيل، في مشهد لم يتجاوز الخمس دقائق، أبطاله، أميني شرطة في العقد الثالث تقريباً من العمر، يرتديان زيهما الشرطي، وسائق سيارة أجرة حديثة "تاكسي أبيض" وزوجته في العقد السابع تقريباً من عمرهما . بدأ المشهد عندما وقعت عيني على أحد أميني الشرطة وهو يتحرش لفظا بفتاة مرت أمامه أثناء سيرها على رصيف كوبري قصر النيل المتجه للتحرير، وكنت على مقربة منهم فأبطئت خطواتي بغية سماع ما يقال، فإذا بزميل المتحرش يقول له "ياعم سيبك منها، شكلها بنت غلبانة، تعالى نشوف المصلحة اللي هناك دي"، وأشار ناحية سيارة أجرى "راكنة" على الناحية المقابلة من الكوبري وبجوارها رجل وامرأة مسنان يجلسان على مقعدين ذكيين - سهلا الطي - ينظران ناحية النيل. رقبتُ المشهد من بعيد، وأنا في قمة تركيزي، لم أسمع كلامهم ولكني أراهم جيداً، وما أن اخرج سائق السيارة من حافظته نقوداً إلا واقتربت وأنا ممسك هاتفي المحمول كأنني أصور ما يحدث، لمحني أحد أميني الشرطة فقال لي "انت بتصور ايه يابني ؟" فأجبته "بصور الراجل الطيب ده" ونظرت الى السائق الذي ارتسمت على وجهه علامات الريبة والإستغراب فقلت له "اصورك ولا لاء ياحاج ؟" فتبسم ضاحكاً وقال "طب صورني وانا بضحك ياباشا". "ورينا بقى انت صورت ايه ياحيلتها"، هذا ما قاله احدهما قبل أن أضع "الموبايل" في جيبي، واذا بأحدهما أمامي والثاني خلفي قولت له "مش من حقك تشوف انا صورت ايه، لأني بصور ناس على الكوبري وبرغبتهم، يعني لا بصور منطقة عسكرية ولا شرطية، وبعدين قبل ما تفكروا تعملوا حاجة أنا صحفي"، تعالت ضحكاتهم، وجاء من كان خلفي ليقف أمامي بجوار زميله ونظرا لبعضهما والتفتا لي وقال احدهما "ممكن نشوف كارنيه حضرتك ياأستاذ"، فأجبتهم "حاضر بس لحظة واحدة، أكلم مأمور قسم قصر النيل، اسألوا عليكم علشان شكلكم مش من دايرة القسم ونازلين بتروشوا وبتعملوا مصلحة"، وأظهرت رقم مأمور قسم قصر النيل وما أن هممت بالإتصال به، حتى قالوا بصوت واحد "طيب استنى ياباشا نتكلم بس". أغلقت المكالمة قبل تجميعها، ونظرت اليهم غير مبالي بهم، فتأسفوا للسائق وزوجته، ونظرا إلي نظرة لن أنساها، وسألني أحدهما "انت ازاي عرفت اننا مش من دايرة قسم قصر النيل?! "، فأجبتهم "لأني مسئول عن أخبار مدdرية أمن القاهرة بالجريدة التي أعمل بها وأعرف جيداً قوة قسم قصر النيل بدءً من المأمور ورئيس المباحث وحتى اصغر مندوب شرطة بالقسم وكمان لأن أمين الشرطة الغشيم هو من يتحرش بفتاة داخل دائرة قسمه"، فضحكا وقالا بصوت واحد "ده انت مراقبنا بقى ياباشا"، فتبسمت لهم وانصرفت فناداني "سائق التاكسي" المسن قائلاً "اركب ياباشا، توصيلتك عندي لو حتى لأسوان علشان انت عيل راجل وجدع" فقبلت رأسه، وطالبته بدعوة صادقة في جوف الفجر وانصرفت وأصوات الدعاء منه ومن زوجته تلاحق مسامعي، حتى وصلت ميدان عبد المنعم رياض، واستقليت اتوبيس هيئة النقل العام الذي ينتظرني . هذا المشهد الذي حاولت تجسيده بين سطور مقالي، ليس سوى مشهد متكرر، يحدث كل يوم بصور متكررة ومختلفة، فأصبح عادي داخل مجتمع بلا هوية ولا أخلاق، أن ترى العاهرة تتحدث عن ضرورة ممارسة الجنس بحرية قبل الزواج الحلال، وترى أخرى تقول بأنها على علاقة شرعية مع حبيبها بدون زواج !.