من العيوب البارزة فى أداء الحكومة الحالية مثل الحكومات السابقة الفشل فى مكافحة الفساد المالى والإدارى المتفشى فى كافة أجهزة الدولة ومؤسساتها، وعدم القيام بجهود ملموسة لاستئصال شأفته، وقد غاب عن الأداء الحكومى ضرورة التعامل الحاسم مع مصادر الفساد الإدارى والمالى وكافة أشكال الفساد المجتمعى، فى ظل ضعف وعدم فعالية أساليب الرقابة التى تنحصر فى الرقابة اللاحقة دون وجود آليات لمنع الفساد من الأصل. ومنذ أعلن الرئيس السيسى الحرب ضد الفساد بكلمته فى اجتماع اللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة الفساد يوم 28 أغسطس 2014، ثم انضم رئيس الوزراء إلى الرئيس فى التأكيد على «نية» الحكومة لمكافحة الفساد، لم تحدث مواجهة حقيقية لمصادر الفساد فى مصر، ثم أعلن رئيس الوزراء «الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد 2014-2018» فى يوم التاسع من ديسمبر 2014 وهو مناسبة الاحتفال باليوم العالمى لمكافحة الفساد، وقد جاء فى التغطية الإعلامية أن تلك الاستراتيجية تتضمن خطة من ستة محاور رئيسة، ينفذ بعضها على المدى البعيد، وأخرى على المدى المتوسط، وثالثة على المدى القريب، وعلى مدى الشهور الماضية لم نلحظ أى محاولات لتفعيل الإجراءات التنفيذية لتلك الاستراتيجية الوطنية! إن ما جاءت به الحكومة فى استراتيجيتها لمكافحة الفساد لا يعدو أن يكون عبارات إنشائية تتحدث عن مبادئ وأهداف ولكنها لم تصل إلى ما يمنع الفساد أصلاً! ثم جاء قرار رئيس الجمهورية بتعيين رئيس جديد لهيئة الرقابة الإدارية وتعيين رئيس الهيئة السابق مستشاراً لرئيس الجمهورية لمكافحة الفساد الذى أُعلن أنه سيكون مسئولاً عن متابعة وضمان تحقيق التعاون والتنسيق بين هيئة الرقابة الإدارية ومختلف الأجهزة الأمنية، فضلاً عن تقديم مقترحات وأفكار عملية لتطوير منظومة مكافحة الفساد بوجهٍ عام، وهذان القراران يمثلان أملاً جديداً لقضية القضاء على الفساد بعد أن تراخت الحكومة فى التعامل مع هذا المرض الخبيث الذى يهدد كل جهود الدولة لتحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. إن المطلوب ليس مجرد وضع استراتيجية للإصلاح الإدارى، ولكن المطلوب أن يتم التعامل الصريح والحاسم لتجفيف منابع الفساد وأصل البلاء الإدارى فى البلاد؛ وهو سيطرة الجهاز الإدارى للدولة واحتكاره تقديم الخدمات والمنافع العامة التى يحتاجها المواطنون، ومن ثم يتمتع الموظفون العموميون فى وزارات الدولة ومصالحها وهيئاتها وفى الوحدات المحلية بسلطة واسعة فى توفير تلك الخدمات والمنافع الحكومية دون وجود بدائل تسمح للمواطنين بالاختيار ودون تقنين معايير واضحة وعادلة ومقيدة لسلطة الموظف العمومى فى المنح أو المنع أو المقيدة بقيود واهية ويمكن للموظف العمومى إذا أراد أن يتحلل منها. إن شيوع منطق «السلطة» واختفاء «منطق الخدمة العامة» فى الجهاز الإدارى للدولة، هو المنبع الأصلى لنشأة الفساد حين يضطر المتعامل مع أجهزة الدولة لدفع رشاوى للحصول على حقه فى الخدمة أو المنفعة، أو الحصول على خدمة أو منفعة أو فرصة من التعامل مع الدولة بغير حق فى ذلك، فيكون الباب منفتحاً لإغراء الموظف أو الموظفين ذوى السلطة بالمال أو مختلف الرشاوى العينية والمعنوية والضغط عليهم لإنهاء المعاملة لصالح القادرين على الدفع من غير أصحاب الحق. لذلك نجد أن اتفاقية الأممالمتحدة أو الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد كلتاهما تبدآن بتعريف «الموظف العمومى» بأنه أى شخص يشغل منصباً تشريعياً أو تنفيذياً أو إدارياً أو قضائياً سواء أكان معٌيناً أم منتخباً، دائماً أم مؤقتاً، مدفوع الأجر أم غير مدفوع الأجر، بصرف النظر عن أقدمية ذلك الشخص؛ وأى شخص آخر يؤدى وظيفة عمومية، بمن فى ذلك من يقدم خدمة لصالح جهاز عمومى أو منشأة عمومية؛ أو أى شخص آخر يوصف بأنه «موظف عمومى». إن تجفيف منابع الفساد وسد الثغرات التى ينفذ منها المفسدون والفاسدون لن يتحقق إلا بإعادة تأسيس وتصميم الجهاز الإدارى للدولة على المستويين المركزى والمحلى على أسس تقلص من السلطات التى يتمتع بها الموظفون العموميون فى تقديم الخدمات العامة، وتحقيق الفصل الكامل بين الموظف «مقدم الخدمة» والمواطن «طالب الخدمة» أو المستثمر أو المورد «طالب المنفعة». ويتحقق ذلك بتحويل الجهاز الإدارى الحكومى للاهتمام بوظائف التخطيط والمتابعة فى الأساس، وإسناد مهام تقديم الخدمات العامة للمواطنين من تعليم وصحة وإسكان ونقل وغيرها من الخدمات إلى القطاع الخاص والأهلى وقطاع الأعمال العام وفق شروط ومعايير لأداء الخدمات معلنة وشفافة، وبناء على إجراءات تعاقدية تنافسية يشارك ممثلو المجتمع فى الرقابة على دقة تنفيذها، وتتولى أجهزة الدولة الرقابة على مقدمى الخدمات الذين تم التعاقد معهم وتقييم مستويات أداء وجودة الخدمات المقدمة للمواطنين وتطبيق شروط التعاقد حين مخالفتها، والبحث فى شكاوى المنتفعين بالخدمات. إن المدخل الأكيد فى القضاء على الفساد بمختلف أنواعه وأسبابه يحتم وجود رؤية واضحة ومنهج علمى يترجم خطط التعامل مع الفساد إلى برامج لها توقيتات ملزمة ونتائج مستهدفة ومعلنة تصبح محلاً للمتابعة والتقييم المجتمعى. لقد نص الدستور فى مادته رقم 218 على أن «تلتزم الدولة بمكافحة الفساد، ويحدد القانون الهيئات والأجهزة الرقابية المختصة بذلك، وتلتزم الهيئات والأجهزة الرقابية المختصة بالتنسيق فيما بينها فى مكافحة الفساد، وتعزيز قيم النزاهة والشفافية، ضماناً لحسن أداء الوظيفة العامة والحفاظ على المال العام، ووضع ومتابعة تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد بالمشاركة مع غيرها من الهيئات والأجهزة المعنية، وذلك على النحو الذى ينظمه القانون»، وذلك بدلاً من النص على إنشاء مفوضية وطنية لمكافحة الفساد ينتظم فيها كافة الأجهزة المعنية بتلك القضية. وإلى الأسبوع المقبل بإذن الله.