كان «السادات» رحمه الله يقرن فى أحاديثه التى سبقت لحظة استشهاده ما بين مفردتَى «السلام» و«الرخاء». والواضح أن الرجل كان يتحرك برؤية تتأسس على أن الحروب التى خاضتها مصر على مدار ما يزيد على ثلاثة عقود أنهكتها وأعجزتها عن النهضة والتقدم، وأن كل حرب خاضتها مصر أكلت من مقدّرات هذا الوطن الكثير، وأثّرت بالسلب على مستوى معيشة المواطن بصورة كان يحسها كل من عاش فترة السبعينات، وعاصر زحمة الأوتوبيسات، واهتراء البنية الأساسية فى الكهرباء والمياه والصرف الصحى، وطوابير المصريين أمام الجمعيات الاستهلاكية للحصول على احتياجاتهم. أراد «السادات» أن يتخلص من صداع الحرب بإبرام معاهدة سلام مع إسرائيل تعيد لمصر أرضها المحتلة، وتمنحه الفرصة للبناء الحقيقى، حتى ولو كان الثمن هو تلك الخصومة الشهيرة التى وقعت بينه وبين العرب عشية توقيع المعاهدة، والتى دفعت السادات إلى رفع شعار «مصر للمصريين»، و«مصر أكبر من الجميع»، ويبدو -والله أعلم- أن الرجل كان يرى أن القومية العربية جرّت علينا ويلات كثيرة، وحمّلت الكيان المصرى ما لا يطيق. ولم يكن من السهولة بمكان أن يتقبل الكثيرون، ممن تغذوا على ثقافة الستينات، هذه الأفكار، فشرعوا فى الهجوم على «السادات» وسلقوه بألسنة حادة، كانت تعكس فى بعض الأحوال ما يردده عدد من الرؤساء العرب المخاصمين للسادات. وكان أبرز هؤلاء الكاتب الكبير «محمد حسنين هيكل»، فيلسوف التجربة الناصرية، ولم يطق «السادات» صبراً على هؤلاء، خصوصاً أنهم جمعوا أطيافاً سياسية مختلفة، تخاصمت فى كل شىء، لكنها تصالحت على الهجوم على «أنور السادات»، سواء من منظور قومى، أو من منظور «متأسلم». وكانت النتيجة أن اتخذ السادات قرارات سبتمبر الشهيرة وتحفّظ على مئات الشخصيات البارزة من السياسيين والصحفيين ورجال الدين الإسلامى والمسيحى ومن قيادات جماعة الإخوان (سبتمبر 1981). ليس ثمة دليل واضح على تورط «مبارك» فى قرارات سبتمبر. فالمؤكد أن السادات اتخذها بملء إرادته، فالأرجح أن الرجل لم يكن يسمح لأحد بمراجعته، لكن يبقى أن كل الرجال المحيطين بالرئيس حينذاك كانوا واثقين من أن هذه الخطوة ستخلق زخماً يهيئ المسرح السياسى فى مصر لقبول فكرة اغتياله، ودعنى أذكرك بما حكيته فى مقال الأمس من أن النبوى إسماعيل وزير داخلية «السادات» أكد فى أكثر من حوار أن الكل كان يعلم أن «السادات» سيُغتال يوم العرض العسكرى، لكن أحداً لم يتحرك لتأمين الرئيس من الاغتيال بين جنود جيشه، بينما يجلس على يمينه نائبه «مبارك» وعلى يساره وزير دفاعه «أبوغزالة»! لا يوجد دليل واضح يؤشر إلى أن «مبارك» كان ضالعاً فى قرارات «سبتمبر 1981»، لكن الأمر المؤكد أنه بادر بمجرد وفاة «السادات» إلى الإفراج عن كافة الشخصيات التى تم التحفظ عليها، بل والتقى برموز منهم، واستقبلهم بحفاوة واضحة. وقد ذكرت أكثر من شخصية، بمن فيهم السيدة جيهان السادات، أن الرئيس كان سيُفرج عن كل المقبوض عليهم، بعد استرداد سيناء كاملة، وأنه كان يسعى فقط إلى «تمرير» أى فرصة لإسرائيل لتأجيل تسليم الأرض، وقد مات «السادات» وتم الإفراج عن كل من تحفظ عليهم، على يد «مبارك»، وكأن الأمر لم يكن يعدو «تمرير» لحظة الاغتيال.