القادة الجدد بعد الثورة يشكون من الإعلام لأنه يطمس الحقائق ويقلل من شأن الإنجازات التى تحققت، وأحياناً يضلل الناس ويثير الفتن والأزمات. رجال المجلس العسكرى كانوا أول من اشتكى، واستمرت الشكوى وتضخمت بعد فوز مرسى بالرئاسة، وطفا على السطح تعبير «الفوضى الإعلامية»، وهى ظاهرة حقيقية لكن العسكر ومرسى وجماعته مسئولون عنها. وحتى لا نخلط الأوراق لا بد من الاعتراف بأن الإعلام ليس شيئاً واحداً، بل إن لدينا خريطة إعلامية معقدة، تشمل إعلام المصالح والسبوبة والتضليل، وإعلام البحث عن الحقائق وتقديم تغطية متوازنة تقدم الحدث من كافة الجوانب ومن وجهات نظر مختلفة، وهو الإعلام الذى يتبع القواعد المهنية الاحترافية ومواثيق الشرف الإعلامى. لكن للأسف الإعلامى المهنى الاحترافى عملة نادرة فى مصر، بل وفى أغلب وسائل الإعلام العربية والأجنبية. باختصار تعد مهنية الإعلام وموضوعيته نموذجاً مثالياً غير موجود فى الواقع إلا فى أضيق الحدود، بل وفى حالات نادرة وبحسب كل وسيله إعلامية والحدث الذى تتناوله. الإعلام فى الأغلب الأعم متحيز لأنه متغير تابع وليس مستقل عن النظامين السياسى والاقتصادى، بمعنى أن مناخ الحريات العامة والنظام القانونى وتوازن القوى السياسية وفاعلية المجتمع المدنى تحدد حرية الإعلام وأساليب عمله، إضافة إلى مهارات وخصائص الإعلاميين أنفسهم، والأهم نمط الملكية وتأثير الإعلانات وهل تمتلك الدولة الإعلام أم رجال الأعمال أم احتكارات إعلامية متحالفة فى الخفاء مع السلطة السياسية، هذه العناصر مجتمعة أو متفرقة تحدد مدى الحرية والمهنية المتاحة للإعلام، لأن ضغوط وتعليمات ملاك الصحف وقنوات التليفزيون هى التى تحدد مستويات المهنية والموضوعية. فى هذا السياق عندما يشتكى الرئيس مرسى ويقول: «الإعلام طمس إنجازاتنا» فإننى أقول له: أى إعلام؟ فهناك إعلام تابع للإخوان والسلفيين يشيد ليل نهار بحكمة الرئيس وإنجازاته، وهناك فى المقابل إعلام ينتقد أداء الرئيس، وهذه هى الديمقراطية لأن حرية الرأى والتعبير تجيز تأييد الرئيس أو انتقاده، لكن هناك شقاً بالغ الأهمية يتعلق بمدى دقة الإعلام فى نقل الأحداث والوقائع، فلا بد من نقلها كما وقعت وبدون تغيير أو تحريف. وهنا كارثة الإعلام المصرى الذى يلون الأحداث ويخلط بين الرأى والخبر، لذلك غطت بعض الصحف والقنوات مليونية «مصر مش عزبة» بطريقة مختلفة تماماً عن صحف وقنوات أخرى، حتى إن القارئ لا يعرف حقيقة ما حدث، فبعض الصحف والقنوات نقلت بالصورة والكلمة فشل المليونية، ووقوع اشتباكات بين المشاركين فيها، بينما تحيزت صحف وقنوات أخرى وأشادت بخروج الملايين ونجاح المظاهرة.. والأمثلة كثيرة. باختصار إعلامنا مسيّس تماماً، وقد تحول إلى أداة أيديولوجية تعمل وفق مصالح الجهة التى تموله، ويهمل فى أغلب الأحداث القواعد المهنية ومواثيق الشرف، ما أدى إلى كثرة الأخطاء والاعتذارات بل ونشر الشائعات، وهنا، لدىّ فرضية لعل أحد باحثى الإعلام الشباب يخضعها للدراسة وهى تراجع مستويات الأداء المهنى للإعلام المصرى بعد الثورة، وهى فرضية غريبة لأن الحريات التى انتزعها الشعب بعد الثورة يُفترض أن تمهد لارتفاع فى مستويات الأداء المهنى الإعلامى، لكن غياب الرؤية الإصلاحية لهيكل الإعلام المصرى والقوانين المنظمة له وعلاقة إعلام الدولة بالحكومة أدى للفوضى الإعلامية والتراجع فى مستويات الأداء المهنى. فالعسكر والإخوان فى البرلمان ثم الرئيس مرسى، تركوا ملف الإعلام بدون تغيير، واستمر العمل بالقوانين والأنظمة غير الديمقراطية التى كانت تنظم الإعلام قبل الثورة، وسُمح لرجال الأعمال بتملك مزيد من القنوات والصحف من دون وضع قواعد منظمة تضمن الإفصاح والشفافية أو تمنع الاحتكار، لذلك فمسئولية الفوضى الإعلامية ترجع بالدرجة الأولى للعسكر والإخوان، ثم للإعلاميين أنفسهم الذين شاركوا فى تسييس الإعلام، وأهملوا فى مهمة تنظيم صفوفهم وتشكيل نقابات مستقلة للدفاع عن مصالحهم وفى مقدمتها إصدار قوانين جديدة للإعلام ومواثيق شرف إعلامى تنظم المهنة.