فى دراسات الرأى العام، يوجد مصطلح يستخدمه الباحثون بكثرة لوصف الحالة التى يكون عليها الجمهور والرأى العام إزاء قضية تتساوى أو تكاد لديهم البراهين المؤيدة لها مع البراهين المعارضة لها، هذا المصطلح هو «التأرجح» Ambivalence.. فى هذه الحالة يصاب الإنسان بحالة من «تجمد الشعور والتفكير» Frozen Brain شبيه بما يحدث عندما يأكل البعض منا الأيس كريم فى شهر ديسمبر. هذا الشعور وهذه الحالة من التأرجح هى ما أشعر به تماماً إزاء مشروع العاصمة الجديدة، فمن ناحية، هى خطوة إلى المستقبل، وهو تفكير إيجابى للقضاء على كثير من مشكلات العاصمة الحالية، ومن ناحية أخرى، هناك فقه الأولويات السياسية، وفقه الضرورات، وما يحتاجه البيت يحرم على الجامع فى أحيان كثيرة، وهناك مشكلات مصرية أولى بالاهتمام والرعاية. قصة نقل العاصمة ليست فكرة جديدة، لا مصرياً ولا عالمياً. هناك مئات الحالات قديماً وحديثاً التى تم فيها نقل العاصمة فى مصر تم نقل العاصمة عدة مرات عبر تاريخها القديم، وكانت هناك محاولات حديثة أشهرها إنشاء مدينة السادات فى نهاية السبعينات. والفكرة نفسها لها عدة مميزات لعل أهمها أنها ستكون جاذبة لنحو خمسة ملايين شخص على الأقل للعيش فيها، وهى بهذا تقلل من كثافة القاهرة العتيقة وهى ستوفر عدة ملايين من فرص العمل اللازمة لبنائها من ناحية، وللعمل فيها من ناحية أخرى، وستوفر إنشاء مبانٍ للوزارات والهيئات التابعة للدولة متوافقة مع ظروف العصر ومتماشية معها، معظم الوزارات الحالية هى مبانٍ تاريخية، وبنيت لمراعاة ظروف الفترة التى بنيت فيها، ولهذا فإن محاولات «عصرنة» هذه المبانى والوزارات وإضفاء سمة العصرية عليها مكلف وغير مجدٍ، كما أن العاصمة الجديدة ستخلص العاصمة القديمة من كثير من مشاكلها الناتجة عن التكدس المرورى وسوء الخدمات بسبب الزحام وغيرها من المشكلات، وسيكون تأمين المقار والمنشآت أسهل وأكثر فعالية. غير أنه، وفى المقابل، توجد مشكلات عديدة وآراء أخرى تدفعنا إلى التفكير العكسى، فمن كانت عاصمته «القاهرة» بتاريخها وبتراثها، وبعبقرية مكانها، لا يمكنه أن يفكر فى أى عاصمة أخرى. العاصمة ليست مبانٍ وإدارات، العاصمة تعكس ثقافة وتاريخ أى دولة، ومن ليس له تاريخ يحاول شراء هذا التاريخ، من المعروف أن واشنطن العاصمة هى أفقر مدن الولاياتالمتحدة، وهى أقلها خدمات، لعدم وجود نواب للكونجرس فيها، ولكن قيمة واشنطن العاصمة بالنسبة للولايات المتحدة لا يضارعها شىء آخر، وعمر هذه المدينة لا يتجاوز مائتى عام أو يزيد بقليل، هى أشياء لا تشترى ولا تصنع. مكان العاصمة الجديدة سبب آخر للاعتراض. قربها النسبى من القاهرة سيجعلها مجرد امتداد لها. المسافة بين العاصمة الجديدة والقاهرة هى نفسها المسافة من مدينة نصر إلى 6 أكتوبر. المصريون لا يحبون الهجرة، سيحتفظون ببيوتهم وأسرهم فى القاهرة القديمة، وسيذهبون للعمل وقضاء المصالح فى العاصمة الجديدة. هى ثقافتنا كدة. جربنا ذلك فى المدن الجديدة، وجربنا ذلك فى مشروعات عديدة. لسنا شعب ترحال ونقل، بل نحن نعيش من سبعة آلاف سنة على نفس البقعة من الأرض، ولا نتزحزح عنها. تكلفة إنشاء العاصمة الجديدة (45 مليار دولار) تقريباً، هى ذات المبلغ الذى نحتاجه لإصلاح منظومتى التعليم والصحة فى مصر، لو تم توفير هذا المبلغ للتعليم وللصحة لأصبحنا فى مصاف الدول الكبرى علمياً وصحياً. هذا المبلغ كفيل بتعليم 450 ألف طالب مصرى فى كبرى جامعات العالم، وحصولهم على درجتى الماجستير والدكتوراه، وهذا المبلغ كفيل بإنشاء 50 مستشفى على أحسن طراز وأكثرها تقدماً، وهذا ما نقول عنه فقه الأولويات. الاهتمام بالعنصر البشرى تعليماً وصحةً أجدى وأنفع. ألم أقل لكم فى البداية إن التأرجح هو سيد الموقف فى التعامل مع قضية نقل العاصمة. وجهتا نظر متعادلتان ومتساويتان، والحسم والاختيار فى النهاية للخبراء والمتخصصين. إن الأمر يحتاج إلى شرح وتفسير وتسويق سياسى حتى لا يصطاد هواة تعكير الأمر ويجعلوا منه أزمة أنه ليس كافياً أن تصنع الخير وإنما أعلن عنه.