يرجع وجود التيار الدينى (الإسلامى) فى فلسطين إلى ما قبل النكبة، فقد انتشرت شُعب جماعة «الإخوان المسلمين» فى عدة مدن فلسطينية، وتوج هذا الوجود زيارة مرشد الجماعة حسن البنا إلى الأراضى الفلسطينية فى أبريل عام 1948 قبل شهر واحد من إعلان دولة إسرائيل. ثم قامت ثورة يوليو 1952 فجرى للإخوان فى فلسطين ما جرى لهم فى مصر، فانكمش التنظيم وتراجع دوره خلال سنوات الخمسينات، ولم يستعد وجوده إلا بعد النكسة فى عام 1967 مع سطوع نجم الشيخ أحمد ياسين كقيادى تنظيمى وخطيب مفوه، أسس الجمعية الإسلامية ثم المجمع الإسلامى، وكان له الدور البارز فى تأسيس الجامعة الإسلامية، ثم بدأ التفكير للعمل العسكرى. حتى تبلور مشروع المقاومة القائم على إطار «أيديولوجى» دينى تتحكم فيه قوة عسكرية مع تدشين «حركة حماس»، التى ولدت عام 1987 من رحم الانتفاضة الفلسطينية الأولى، مؤكدة ولاءها الفكرى الكامل لجماعة الإخوان، مستكملة ما بدأه التنظيم بشعبة صغيرة تضم عدداً محدوداً من الأعضاء، لتهيمن به على دولة (سلطة) بعد فوزها فى آخر انتخابات تشريعية فلسطينية عام 2006، لتتمكن الحركة بعدها من إحكام السيطرة الكاملة على قطاع غزة، والتحكم فى مصير أكثر من 2 مليون فلسطينى، ولا تزال. لا يمكن التعامل مع «حماس» بمعزل عن المشهد التأسيسى لهيمنة الفكر الدينى على مفاصل المنطقة العربية بأكملها فى نهاية السبعينات من القرن الماضى، والذى أخذ منحى متصاعداً عقب اندلاع الثورة الإيرانية ثم سقوط حكم الشاه فى فبراير عام 1979، ثم غزو القوات السوفيتية لأفغانستان فى ديسمبر من نفس العام، لتتحول من بعدها كل من طهران وكابول إلى عاصمتى صناعة التطرف الدينى وتصديره إلى عموم العالم، برعاية أمريكية ومباركة غربية وتطلع إسرائيلى. خلال انشغالى باستكمال بحثى فى مسألة «تديين» الصراع العربى الإسرائيلى بين الجذور والمآلات، الذى أنشر بعض مقالاته تباعاً فى العديد من الصحف والمجلات المصرية والعربية، وأناقشه كلما تيسر خلال لقاءات تليفزيونية تجريها معى بعض الفضائيات، عندما قاطعنى برسالته المباغتة عبر تطبيق «messenger»: «هل أخطأت حماس؟». عرفنى باسمه ووظيفته، حيث يعمل بمجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعى، شاب عربى أرهقته الفكرة والسؤال فقرر البحث عبر «google» عن إجابة بعد أن أغرقنا طوفان دماء الأبرياء وأظلم أيامنا باليأس والعجز، فضاعت نشوة النصر اللحظية التى أنارت طريق المقاومة ورفعت سقف الأحلام بعد السابع من أكتوبر الماضى، حتى اصطدم هو وكثيرون ببشاعة ما يجرى لأهلنا وإخواننا فى غزةالمحتلة من إبادة جماعية وتهجير قسرى، وتحولت همسات الاستفهام إلى صرخات لإدانة حماس، خاصة مع استمرار رحلة الآلام الغزاوية التى طالت بأكثر مما تحتمل قدرات البشر، وزادها قسوة مشاهد التغريبة الفلسطينية الثانية التى أدمت قلوب العرب والمسلمين. ورغم أننى كنت أرى أنه من المبكر محاسبة الحركة أو تقييم نتائج «طوفان الأقصى»، إلا أن الرسالة التى وصلتنى وطرحت السؤال الصعب، حملت لى أيضاً ذكرى مهمة منحتنى فرصة لتأمل الأمر والتفكير فيه بنظرة مختلفة، فقد أرسل لى الشاب رابطاً إلكترونياً لموضوع قديم كنت كتبته عام 2009، ونشرته فى صحيفة «الشرق الأوسط» الدولية، وكان جزءاً من سلسلة مهمة عرضت فيها 3 كتب لمؤسس تنظيم الجهاد المصرى السيد إمام (الدكتور فضل)، أثارت جدلاً كبيراً وقت نشرها، كان أبرزها كتابه الذى تناول فيه بالنقد والتحليل الشرعى موقف حركة المقاومة الإسلامية (حماس) خلال معركة الفرقان فى ديسمبر عام 2008، والتى تعرف فى الأدبيات الإسرائيلية بعملية «الرصاص المصبوب»، والتى سقط فيها أكثر من ألف شهيد وقرابة 4200 من الجرحى والمصابين من أهالى غزة. ذكرنى الشاب مؤكداً: «أن الظروف تكاد تكون متطابقة»، ومستوضحاً: «كنت أحب أعرف، هل رأى حضرتك اليوم تغير، أم أن حماس أخطأت التقدير هذه المرة أيضاً؟». طالعت عناوين حلقة الكتاب المنشور فى الصحيفة (اللندنية) الشهيرة بتاريخ 26 أبريل عام 2009: «منظّر الجهاد المصرى: مأساة غزة اليوم أن حماس تريد أن تنفرد بالقرار.. وعلى الآخرين سداد الفاتورة»، «الدكتور فضل: حزب الله وحماس أطلقا صواريخهما من وسط النساء والأطفال ليصنعا لنفسيهما بطولات على حساب هؤلاء، ثم صرخا.. أغيثوا غزة.. غزة منكوبة». ثم توقفت أمام هذه الفقرة من إحدى حلقات كتاب منظر جماعة الجهاد، التى نشرت قبل 14 عاماً وكأنها مكتوبة اليوم: «لفهم ما يحدث فى غزة اليوم يجب رد الفروع إلى أصولها، فحماس التى تحكم غزة اليوم ما هى إلا فرع من جماعة الإخوان المسلمين التى نشأت فى مصر عام 1928. وبداية أقول: إنه لا توجد جماعة إسلامية من المعروفين فى الدنيا اليوم قد وضعت قدمها بعدُ على بداية الطريق الصحيح لنصرة الإسلام وإعزازه، كلهم ومنذ قرن من الزمان يجربون أفكارهم فى المسلمين ويعملون من أجل مصالح محدودة، فجلبوا الكوارث على المسلمين بسبب تقديم الرأى والهوى على الشرع».