حريق يلتهم 4 أفدنة قمح في قرية بأسيوط    متحدث الصحة عن تسبب لقاح أسترازينيكا بتجلط الدم: الفائدة تفوق بكثير جدًا الأعراض    بمشاركة 28 شركة.. أول ملتقى توظيفي لخريجي جامعات جنوب الصعيد - صور    برلماني: مطالبة وزير خارجية سريلانكا بدعم مصر لاستقدام الأئمة لبلاده نجاح كبير    التحول الرقمي ب «النقابات المهنية».. خطوات جادة نحو مستقبل أفضل    ضياء رشوان: وكالة بلومبرج أقرّت بوجود خطأ بشأن تقرير عن مصر    سعر الذهب اليوم بالمملكة العربية السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الأربعاء 1 مايو 2024    600 جنيه تراجعًا في سعر طن حديد عز والاستثماري.. سعر المعدن الثقيل والأسمنت اليوم    تراجع أسعار الدواجن 25% والبيض 20%.. اتحاد المنتجين يكشف التفاصيل (فيديو)    خريطة المشروعات والاستثمارات بين مصر وبيلاروسيا (فيديو)    بعد افتتاح الرئيس.. كيف سيحقق مركز البيانات والحوسبة طفرة في مجال التكنولوجيا؟    أسعار النفط تتراجع عند التسوية بعد بيانات التضخم والتصنيع المخيبة للآمال    رئيس خطة النواب: نصف حصيلة الإيرادات السنوية من برنامج الطروحات سيتم توجيهها لخفض الدين    اتصال هام.. الخارجية الأمريكية تكشف هدف زيارة بليكن للمنطقة    عمرو خليل: فلسطين في كل مكان وإسرائيل في قفص الاتهام بالعدل الدولية    لاتفيا تخطط لتزويد أوكرانيا بمدافع مضادة للطائرات والمسيّرات    خبير استراتيجي: نتنياهو مستعد لخسارة أمريكا بشرط ألا تقام دولة فلسطينية    نميرة نجم: أي أمر سيخرج من المحكمة الجنائية الدولية سيشوه صورة إسرائيل    جونسون: الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين داخل الجامعات الأمريكية نتاج للفراغ    قوات الاحتلال تعتقل شابًا فلسطينيًا من مخيم الفارعة جنوب طوباس    استطلاع للرأي: 58% من الإسرائيليين يرغبون في استقالة نتنياهو فورًا.. وتقديم موعد الانتخابات    ريال مدريد وبايرن ميونخ.. صراع مثير ينتهي بالتعادل في نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    معاقبة أتليتيكو مدريد بعد هتافات عنصرية ضد وليامز    موعد مباراة الأهلي والإسماعيلي اليوم في الدوري والقنوات الناقلة    عمرو أنور: الأهلي محظوظ بوجود الشناوي وشوبير.. ومبارياته المقبلة «صعبة»    موعد مباريات اليوم الأربعاء 1 مايو 2024| إنفوجراف    ملف رياضة مصراوي.. قائمة الأهلي.. نقل مباراة الزمالك.. تفاصيل إصابة الشناوي    كولر ينشر 7 صور له في ملعب الأهلي ويعلق: "التتش الاسطوري"    نقطة واحدة على الصعود.. إيبسويتش تاون يتغلب على كوفنتري سيتي في «تشامبيونشيب»    «ليس فقط شم النسيم».. 13 يوم إجازة رسمية مدفوعة الأجر للموظفين في شهر مايو (تفاصيل)    بيان مهم بشأن الطقس اليوم والأرصاد تُحذر : انخفاض درجات الحرارة ليلا    وصول عدد الباعة على تطبيق التيك توك إلى 15 مليون    إزالة 45 حالة إشغال طريق ب«شبين الكوم» في حملة ليلية مكبرة    كانوا جاهزين للحصاد.. حريق يلتهم 4 أفدنة من القمح أسيوط    دينا الشربيني تكشف عن ارتباطها بشخص خارج الوسط الفني    استعد لإجازة شم النسيم 2024: اكتشف أطباقنا المميزة واستمتع بأجواء الاحتفال    لماذا لا يوجد ذكر لأي نبي في مقابر ومعابد الفراعنة؟ زاهي حواس يكشف السر (فيديو)    «قطعت النفس خالص».. نجوى فؤاد تكشف تفاصيل أزمتها الصحية الأخيرة (فيديو)    الجزائر والعراق يحصدان جوائز المسابقة العربية بالإسكندرية للفيلم القصير    حدث بالفن| انفصال ندى الكامل عن زوجها ورانيا فريد شوقي تحيي ذكرى وفاة والدتها وعزاء عصام الشماع    مترو بومين يعرب عن سعادته بالتواجد في مصر: "لا أصدق أن هذا يحدث الآن"    حظك اليوم برج القوس الأربعاء 1-5-2024 مهنيا وعاطفيا.. تخلص من الملل    هل حرّم النبي لعب الطاولة؟ أزهري يفسر حديث «النرد» الشهير (فيديو)    هل المشي على قشر الثوم يجلب الفقر؟ أمين الفتوى: «هذا الأمر يجب الابتعاد عنه» (فيديو)    ما حكم الكسب من بيع وسائل التدخين؟.. أستاذ أزهرى يجيب    هل يوجد نص قرآني يحرم التدخين؟.. أستاذ بجامعة الأزهر يجيب    «الأعلى للطرق الصوفية»: نحتفظ بحقنا في الرد على كل من أساء إلى السيد البدوي بالقانون    إصابات بالعمى والشلل.. استشاري مناعة يطالب بوقف لقاح أسترازينيكا المضاد ل«كورونا» (فيديو)    طرق للتخلص من الوزن الزائد بدون ممارسة الرياضة.. ابعد عن التوتر    البنك المركزي: تحسن العجز في الأصول الأجنبية بمعدل 17.8 مليار دولار    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    "تحيا مصر" يكشف تفاصيل إطلاق القافلة الإغاثية الخامسة لدعم قطاع غزة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط.. صور    أفضل أماكن للخروج فى شم النسيم 2024 في الجيزة    اجتماعات مكثفة لوفد شركات السياحة بالسعودية استعدادًا لموسم الحج (تفاصيل)    مصدر أمني ينفي ما تداوله الإخوان حول انتهاكات بسجن القناطر    رئيس تجارية الإسماعيلية يستعرض خدمات التأمين الصحي الشامل لاستفادة التجار    الأمين العام المساعد ب"المهندسين": مزاولة المهنة بنقابات "الإسكندرية" و"البحيرة" و"مطروح" لها دور فعّال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسرة "رملة بولاق": آهى "عيشة".. وآخرتها الموت
الجدة عايشة أيام مرار عشان تصرف على عيالها.. والابنة عايشة وخلاص والحفيد كان نفسه يكون معاه فلوس عشان يريحهم
نشر في الوطن يوم 24 - 03 - 2015

على قطعة قماش بالية داخل أحد شوارع منطقة «رملة بولاق»، تجلس «رسمية السيد»، 70 عاماً. أمامها تمتد «فرشة» بقالة صغيرة تضم أنواعاً مختلفة من الحلويات والبسكويت، بيد معروقة تشير «رسمية» إلى عشة صغيرة معروشة بالخشب على امتداد البصر قبل أن تقول: «دى عشتى، ساكنة فيها من غير ولا ميه ولا كهربا»، بنفس الكف المعروقة تشير للبضاعة الموجودة أمامها قائلة: «أهل الخير إدونى قرشين جبت بيهم الحاجات دى أبيع وأشترى فيها»، تضيف بلهجة صعيدية تقلب الجيم إلى دال: «مش معايا حد يدينى حاجة، قاعدة لوحدى، وما عنديش سرير، بانام فى الأرض على بطانية، وباتغطى ببطانية تانية».
تستقر «رسمية» على رأس عائلة صغيرة مكونة من سبعة أبناء، وعدد كبير من الأحفاد، يسكن بعضهم معها منطقة «رملة بولاق» العشوائية ضمن بضع مئات من السكان الآخرين. يفصلهم عن مجرى نيل القاهرة برجا «ساويرس» الشهيران ب«أبراج نايل سيتى»، يرتفع البرجان إلى الدرجة التى تحجب معها الشمس عن أهالى «الرملة»، كما يحتجب الهواء والضوء. معركة شرسة خاضها الأهالى على مدار السنوات الماضية ضد محاولات تهجيرهم من منازلهم والاستيلاء على الأرض التى يعيشون عليها، كل همهم هو الحصول على شقق نظيفة تمنحها لهم الحكومة كما فعلت فى بعض المناطق العشوائية. غير أنهم يؤمنون فى الوقت نفسه بأن «الحداية ما بتحدفش كتاكيت»، وأن انتظار الشقة من الحكومة «ضرب من الجنون»، تلخصه رسمية بقولها: «ما حدش بيدى حد حاجة، وأنا لو دُخت مش هاطول شقة ولا غيرها، الحكومة لو تلقانى فلوس تلهفنى».
اعتادت «رسمية» على الحياة وحدها داخل العشة بعد وفاة زوجها، لا أحد يطبخ لها أو يراعى شئونها باستثناء ابنتها الكبرى «عايدة»، 51 عاماً، والتى تسكن معها داخل المنطقة، وتعول وحدها ثلاثة أبناء بعد أن هجرها زوجها منذ زمن طويل، تصفها رسمية بقولها: «غلبانة وصعبانة عليَّا. جوزها سايبها ومعاها 3 عيال ومعاها بنت بتشتغل عليها عشان تجهزها»، أما باقى الأولاد «الصبيان ساكنين برة وكل واحد بمراته»، والبنات «متجوزين. بس جوازات الندامة»، والنتيجة: «كل واحد بيكفى عياله، وما حدش بيدينى حاجة، باعتمد على ربنا، ولما باتعب باروح المستشفى بيدونى علاج ما بارضاش آخده»، تشرح «العلاج عايز أكل وتغذية، مش عايز آخده وياكل فى جسمى».
«عايدة» الوحيدة من كل الأبناء التى ترعى شئون أمها: «باجيبها تقعد معايا شوية، ولما أعمل لقمة بأودى لها، غلبانة وعايزة اللى يحن عليها، عايزة مصاريف وعايزة علاج»، تفعل عايدة ذلك رغم أنها تعانى مثل أمها من أوضاع مادية صعبة، تعيش فى المنطقة بصحبة أبنائها «محمد» 21 سنة، و«دنيا» 19 سنة «مخطوبة وعلى وش جواز»، و«رمضان 18 سنة»، يسكنون جميعاً عشة صغيرة، يقتصر سقفها على عروق خشبية قديمة تمتد فوقها قطع صغيرة من المشمع، بينما تختفى الجدران خلف ستائر بالية تستر الرطوبة، وبالكاد تستوعب العشة سريراً صغيراً، وكرسياً متهالكاً، وكنبة خشبية خالية من الفرش، ومنضدة صغيرة، عليها تليفزيون ألوان بدون «ريسيفر»، ولا «دش»، يعمل بإيريال داخلى، فلا يلتقط إلا إرسال القنوات الأرضية التى تبث إرسالها من القاهرة والمحافظات.
«إحنا التلاتة بننام هنا على السرير، وأمى بتنام على الأرض»، يتحدث محمد ابن عايدة الأكبر، مشيراً إلى السرير الوحيد الذى يتوسط الغرفة والذى ينام عليه مع شقيقته وشقيقه، تدارى والدته خجلها: «بأنام فى الأض عشان ما أزنقهمش على السرير»، وهو ما يجعل الحجرة تسعهم «بالعافية» كما يقول محمد، ويجهل من الصعب أن تشاركهم فيها جدتهم، لهذا تسكن وحدها فى عشة منفصلة، غير أنها أحياناً ما تأتى لتجلس معهم قليلاً، يتحسر محمد: «بتيجى تقعد وتتكلم معانا، وهى بتحبنا عشان ما بنشتمهاش، هى خلاص كده بتعيش آخر أيامها وكان نفسى يكون معايا فلوس عشان أريحها».
لا يملك محمد ما ينفقه على جدته أو حتى على والدته، عمله فى إحدى ورش المعادن بمنطقة السبتية لا يوفر له دخلاً منتظماً، لأن العمل نفسه غير منتظم: «كنت باشتغل فى شركة استانلس فى السبتية، كنت مبسوط ومستحمل، بس صفّونا كلنا، كنا تقريباً 150 واحد، جابوا ناس متعلمة تقعد على الكمبيوتر، وآلات تشيل المعادن»، الآن يتنقل محمد بين الورش فى نفس المنطقة ليعمل حمالاً «باشيل أنابيب ومعادن»، وذلك حتى يوفر مصاريفه الخاصة، وإذا فاض على حاجته شىء يمنحه لأمه، والتى تتكفل بباقى مصاريف أشقائه.
تعمل الأم فى أحد البنوك بمنطقة الدقى كعاملة نظافة، تحصل على مرتب شهرى بسيط من عملها، بالإضافة إلى معاش من الضمان الاجتماعى لا يزيد على 250 جنيهاً، تدفع منهما 60 جنيهاً إيجاراً للعشة التى تسكنها، و10 جنيهات قيمة استهلاك الكهرباء التى تدخل المنطقة عبر عداد كهرباء واحد للجميع، كما تستعين بالمعاش فى مصاريف البيت: «بنمشى حالنا. النهاردة بصارة بكرة فول، بعده عدس أهو عايشين وخلاص»، وتحتاج لعشرات الآلاف من الجنيهات كما تقول حتى تكمل تجهيز ابنتها الوحيدة دنيا للزواج «عايزة هَمّ ما يتلمّ»، تعدد الاحتياجات «المطبخ بلوازمه، والغسالة، والبوتاجاز»، ولهذا فهى تشترى الجهاز بالقسط «كل شهر بادفع حاجة، عشان أمشى حالى»، أملها الوحيد فى الحياة أن تتزوج الابنة المخطوبة لأحد شباب المنطقة «كل الناس هنا بتتجوز من بعض»، وفى المقابل توفر كل قرش يدخل لها: «باقعد فى الشغل طول النهار على شقة عيش واحدة، وكوباية شاى، عشان أوفر حاجة، وما بابقاش جعانة»، هكذا تقنع نفسها، وتقنع من حولها، لكنها تعود وتتحدث بصوت منخفض حتى لا يسمع الأبناء: «ساعات باقع من طولى، مرة وأنا ماشية وقعت فى الشارع وواحد ما أعرفهوش خد بإيدى، ربنا يسترها».
ضيق الحال وقلة الدخل لم يقتصر على عايدة وابنها محمد فقط، فى الأساس تعانى منه الجدة رسمية، التى تقول إن الحياة الصعبة هى التى دفعت بها وبزوجها إلى الهجرة من مسقط رأسهما بمركز طهطا محافظة سوهاج إلى القاهرة قبل أكثر من 50 عاماً: «جوزى كان على الله، أرزقى، يوم فيه وعشرة ما فيش»، لم تكد الأسرة الصغيرة المكونة من الزوج والزوجة تستقر فى منطقة رملة بولاق بأوائل الستينات حتى رحل الزوج تاركاً للأم 7 أبناء، بلا دخل ولا عائل، اضطرت رسمية وقتها أن تعمل لتنفق على الأسرة: «كنت باشيل بالقفص على راسى فى سوق روض الفرج عشان أوكلهم»، ورغم المشقة «كانت البلد زينة عن دلوقتى»، كان عبدالناصر على كرسى الحكم، يتمتع بحب الجماهير العريضة: «الناس كلها كانت بتحبه، وأيامه كانت زينة، إنما دلوقت أيام المرار».
لا يفارق المرار حلق رسمية، ينبع دائماً من الحياة الصعبة التى عاشتها وتعيشها: «حاسة إنى تعبانة فى العيشة، ما استريحتش فى حياتى، وحاسة لما أموت كمان مش هاستريح»، تنساب الدموع من عينها رغماً عنها فتمسحها بطرحتها: «اللى تاعبنى الزمن والهم والمرار اللى شارباه»، لا دخل ثابت للسيدة العجوز باستثناء 200 جنيه معاش الضمان الاجتماعى، تدفع منها 20 جنيهاً إيجاراً للعشة العارية التى تسكنها، وبعض المساعدات من أهل الخير، من ضمنها فرشة الحلويات التى تقول إن أهل الخير تبرعوا بها لها، والتى تجلس أمامها طول اليوم، لا تفارق جلستها إلا فى القليل النادر، حين تنتقل للنوم داخل العشة، أو للجلوس مع الابنة الكبرى.
حياة عايدة الابنة الكبرى لا تخلو من مشاكل، هى أيضاً تعيش بلا زوج منذ أن هجرها أبو أبنائها: «ربنا يسامحه عز العرب ويسهل له»، تزوجته صغيرة، جاء من أسيوط ليسكن معهم فى رملة بولاق، تتذكر عايدة جيداً تفاصيل زيجتها: «اتجهزت بربع جنيه، والقايمة كان فيها سرير ودولاب وكنبة، وجاب لى غويشتين وخاتم بعتهم عشان الولاد». تعترف عايدة أن زوجها كان يحبها، غير أن «الحب ما بيدومش» كما تعلق ابنتها «دنيا»، سرعان ما هجرهم الأب: «سايبنى من عمر رمضان ابنى، بقاله 18 سنة متجوز وما نعرفش عنه حاجة.. لم يطلقنى عشان كل ما الدنيا تضرب فيه ويحس إنه غلب خالص ييجى يقعد هنا، لو طلقنى إدارى كنت عملت معاش»، وبعد انفصاله عنها ضم الأولاد لحضانته «عنداً فيَّا».
سافر محمد ودنيا مع والدهما إلى محافظة أسيوط حيث مسقط رأسه، تركهما فى رعاية والده ووالدته ثم رحل مرة أخرى، وفى أسيوط عاش محمد حياة يقول إنها لا تختلف كثيراً عن حياته فى رملة بولاق «هى نفسها العيشة، بس هناك اللى مش معاه فلوس خالص يعرف يعيش، ياكل من الغيط ويلاقى فى البيت جبنة وعيش، لكن هنا لازم نشتغل شغل موت». يتذكر محمد جيداً حياته فى الصعيد: «كنت بادرس فى الأزهر أنا وأختى، قعدت لغاية 3 إعدادى، اتعلمت كويس باعرف أقرا وأكتب وحافظ قرآن، لكن الحالة ما سمحتش إنى أكمل، جدى طلعنى عشان المصاريف»، يخرج من جيبه كارنيه التأمين الصحى الخاص به ليؤكد كلامه: «جدى كان بيدينى ربع جنيه، والمدرسة كانت بتصرف لى تغذية كل يوم رغيفين فينو وبيضة و2 جنيه وريال كل شهر»، كان يتمنى لو أكمل تعليمه: «كان نفسى الظروف تبقى حلوة وأقدر أكمل، بس ما فيش نصيب»، خاصة أن زملاءه الآن يدرسون فى الجامعة، يتواصل معهم أحياناً كما يقول: «الدراسة عايزة مصاريف، والجامعة كمان، وأنا ما فيش عندى إمكانية، كنت باخد المصروف بالعافية». تستمع الأم إلى كلام ابنها، تنفعل بالحديث، تعلق قائلة: «كان نفسى يكون معايا فلوس وأخليهم يكملوا تعليمهم، عشان يعرفوا الدنيا ماشية إزاى»، تتحسر على نفسها: «أنا كمان ما رحتش مدرسة، كان نفسى لو أقدر أخليهم يعملوا اللى أنا ما عملتهوش، يتعلموا ويطلعوا زى ما يطلعوا، أهم حاجة يكونوا حاجة كويسة ويعيشوا عيشة أحسن من اللى أنا عايشاها، كان نفسنا نعيش أحسن عيشة بس النصيب»، تنساب الدموع رغماً عنها من عينى الأم، تمسحها بطرف طرحتها الحريرية السمراء، تبدى إشفاقها على ابنها الكبير من الجهد الذى يبذله، تصفه بقولها: «هو جدع وبيتحمل المسئولية، مش لعبى، بس أرزقى، بيشتغل يوم وينام عشرة، واللى بيجيبه بناكل بيه، حالنا على كده»، تتابع: «ابنى تعبان، بيصعب علىَّ التعب بتاعه فى الشغل، باكلّمه وأقول له مالكش دعوة بحد برة، أنا دلوقت الأب والأم».
أكثر من مهنة جربها الابن: «اشتغلت فى ورش كتير بس هناك بيشتموا الواحد وأنا ما باستحملش»، جرب أن يعمل سائقاً: «سقت عربيات ميكروباص والأوتوبيسات الكبيرة اللى على الدائرى»،
لكن عدم امتلاكه رخصة وضع نهاية لاحترافه القيادة: «لو عديت على لجنة وما لقوش معايا رخصة هاتشحور»، جرب عدة مهن لكنه لم يعمل بانتظام أبداً، ثم لجأ إلى الورشة التى يعمل بها حالياً، وحلمه أن يستقر فى عمله حتى ترتاح أمه من التعب، فلا تخرج للعمل: «عايز شغلانة أرتاح فيها وتكون مستمرة عشان أعمل حاجة لأمى وأخواتى، وعايز ماهية دايمة عشان أستريح وأريح أمى وأقعدها وما أخليهاش تشتغل»، يسترسل فى أحلامه: «يكفينى 1500 جنيه كل شهر بس يكونوا دايمين عشان أتجوز وأعرف أخلّف عيال وأصرف عليهم وأعلّمهم، واللى أنا ما عملتهوش هُمَّ يعملوه».
تبدو أحلام محمد بسيطة للغاية، تماماً كأحلام الجدة رسمية: «نفسى فى حتة بطانية، حتة سرير أنام عليه بدل ما أنا نايمة على الأرض»، أما الأم فتحلم بأن: «أستر البنت، ونفسى محمد يتجوز ويبقى عريس، ويبقى فى بيته»، وهم يعتمدون على أنفسهم فى تحقيق أحلامهم، أو على ما يجود به: «أهل الخير ربنا يخليهم»، أما الحكومة فلا ينتظرون منها شيئاً تكتفى الجدة والأم بالمعاش الذى تحصلان عليه منها، والدعم الممثل فى بطاقة التموين، تحصل عليه الجدة المسجلة مع أبنائها على بطاقة واحد منهم، فيما تواجه الأم مشكلة متعلقة بنقلها من مكتب تموين لآخر، ما يقف حائلاً بينها وبين صرف المواد التموينية المدعمة، وكذلك الخبز المدعم لأكثر من شهرين مضيا: «مغلبينّى بقالهم شهرين، دايخة على العيش والتموين، رحت المكتب فى رمسيس عملوا لى ورق دفعت فيه 150 جنيه، وقالوا لى هاتى صور العيال وشهادات ميلادهم، وآدينى هاخد يوم بحاله وهاقعد لها مخصوص. ما فيش حاجة بالساهل أبداً».
ورغم بساطة أحلام الأسرة، فإنها تظل فى النهاية مجرد أحلام، لا تجاوز حدود المنطقة التى يعيشون فيها منفصلين عن الدنيا، رغم أن الدنيا على بعد أمتار قليلة منهم، على مرمى البصر، حيث تستقر أبراج نايل سيتى، التى لا يعرفون عنها شيئاً، ولم يجربوا دخولها، على العكس تماماً، يخشون الاقتراب منها، لا تزال ذاكرتهم تحتفظ بأحداث ثورة 25 يناير، وما صاحبها من انفلات أمنى، اقترب للغاية منهم حين تم السطو على محلات البضائع بمول أركاديا، وقتها اتهمت الحكومة عدداً كبيراً من أهالى رملة بولاق بالضلوع فى سرقة المول، لكنهم ينفون كل ذلك جملة وتفصيلاً: «كنا قاعدين متهددين»، تتذكر عايدة تلك الأيام، تدافع عن جيرانها: «والله ما أخدنا حاجة، ظلمونا، إحنا كنا خايفين، وفيه ناس من الحتت اللى جنبنا راحت خدت، لكن إحنا ما خدناش حاجة»، تتابع: «الحكومة بتنزل تلم اللى عمل واللى وما عملش، بيخشوا البيوت وياخدوا الناس من جوة، وساعات بياخدوهم من الشارع»، تتأسف على كل ما حدث ويحدث: «الحكومة ما بتجيش غير على الناس الغلابة».
«ظلم الشرطة» أو «الحكومة» كما يطلق عليها أهالى منطقة رملة بولاق لا يقتصر على اتهامهم ب«الباطل» كما تقول عايدة، لكنه يمتد إلى القبض عليهم من الشوارع كما يقول محمد لمجرد الاشتباه فى أشكالهم: «ممكن وأنا جاى بالليل من الشغل وهدومى فيها زيت وشحم الحكومة تاخدنى ويقولوا ده تسول فى الشارع»، يشرح أكثر: «بيشتبهوا فى الهدوم والشعر المنكوش»، وقتها يلقون القبض عليه: «يقولوا لى تعالى نكشف عليك، ولما أروح القسم مش بيلاقوا علىَّ حاجة، فياخدونى أنضّف الحمام، وما أقدرش أقول لأ عشان ممكن يلبسونى قضية»، يحدث معه ذلك وهو بعيد كل البعد عن المشاكل: «لا بآخد برشام ولا أى حاجة، حتى السجاير ما باشربهاش».
على أن المضايقات التى يقولون إنهم يتعرضون لها من الشرطة، لم تنسهم دورها المهم فى حمايتهم، خاصة حين يجدون أنفسهم عرضة لهجمات البلطجية الذين يهبطون على المنطقة مقبلين من عند الكوبرى، يصفهم محمد بقوله: «ناس جعانة وبتنط على الناس الجعانة»، يفسر أكثر: «اللى يلقى أنبوبة غاز ياخدها، واللى يلقى موبايل ياخده»، يتذكر محمد تليفونه المحمول الذى تمت سرقته من داخل العشة: «حرامى نط علينا سرق موبايلى، كنت دافع فيه 3 آلاف جنيه، تحويشة عمرى، دخلت العشة ما لقتهوش»، ما زالت عملية سرقة الموبايل تحز فى نفس محمد رغم مرور وقت طويل عليها: «لو شغال ومعايا فلوس مش هازعل عليه لكن عشان مش معايا مش قادر أنساه»، يخرج من جيبه «تليفون صينى» بسيط للغاية ويقلب فيه: «ده بخمسين جنيه بس، ما فيهوش الإمكانيات اللى كانت فى التانى، بيصور بس صور مش قد كده».
حالات السرقة الكثيرة ومهاجمة عشش رملة بولاق تبعث القلق فى نفس عايدة: «ما باعرفش أنام وآمن على بنتى، وما آمنش عليها تطلع برة لوحدها»، تعلق الابنة نفسها: «لو اخواتى بايتين فى شغلهم بنبقى قلقانين أنا وأمى»، يتمنى محمد لو وجدت الشرطة فى الشارع: «لازم يكون فيه حكومة فى الشارع، لو بنت ماشية لوحدها وحصل لها حاجة تلقى عسكرى أو ظابط حواليها»، يروى قصة جارة لهم اختطفها سائق توك توك منذ فترة، ولم يعثروا عليها، الأمر الذى يدفع عايدة لأن تؤكد: «دلوقت ما ينفعش بنت تخرج لوحدها، ولا تركب توك توك لوحدها، أنا نفسى ما بقتش أركب التوك توك لوحدى أبداً، صحيح أنا ست كبيرة، لكن ممكن ياخدنى ويمشى».
تظل الجدة رسمية فى مأمن من غارات البلطجية على عشش رملة بولاق، على الأقل لأنها لا تملك ما يطمع فيه اللصوص: «إيش ياخد الريح من البلاط»، لكنها لا تبدى إعجابها بالوضع العام للبلاد: «حال البلد بالمرار»، تشير إلى محمد حفيدها الذى يراقب عن كثب مجموعة شباب يلعبون البلى بخمسة جنيهات للدور وتقول: «الشباب أهم بيلعبوا بلى، لو كان فيه شغل فى البلد مش كانوا يشتغلوا؟»، ترد على نفسها: «ما فيش شغل، ابن بنتى لو اشتغل يوم ب15 جنيه، يصرفهم تانى يوم لو قعد من غير شغل»، يرتفع صوتها وتعقد حواجبها وتتساءل مستنكرة: «البنات اللى بتتجوز مش عايزة تتجهز؟، أهاليهم يجيبوا منين؟، مين يديهم؟»، عن نفسها تقول: «أنا مش عايزة حاجة، الحمد لله أنا عايشة وراضية بقليلى، سلطانة زمانى، قبل ما بانام باشرب بق مية وأصلى ركعتين وأقول أحمدك يا رب، كأنى كلت وشربت».
بالاستغناء تعيش رسمية، هى تستغنى عن كل شىء، ولا تطمع فى أى شىء، عشتها ليس بها حمام، ورغم ذلك راضية وقانعة، لا تأكل من الطعام إلا أسوأه، تنتظر ما يجود به «أهل الخير» من لحم فى المواسم والأعياد: «فيه ناس بتيجى يفرقوا لحمة أو بطاطين يدوا للناس الغلابة اللى زى حالاتى، بس مش دايماً»، ولأن عشتها ليس فيها كهرباء فإنها لا تملك تليفزيوناً، ولهذا لا تتابع الأحداث الجارية، أو بالأدق لا تعلم شيئاً عما يجرى فى العالم، باستثناء ما يجود به الجيران من أخبار يقصّونها على مسامعها، أو تلتقطها من الرائح والغادى، فى جلستها أمام فرشة البقالة سمعت عما حدث للمصريين فى ليبيا: «صعبوا علىّ، زى ولادى، والمسلم لازم يبقى قلبه حلو وكويس»، حادث ذبح المصريين على يد داعش تحديداً شاهدته رسمية على التليفزيون: «لما شفتهم قدامى بيفرفروا زى الحمامة ما قدرتش آكل ولا أشرب، زعلت عليهم».
«ساعات بتيجى عندى تتفرج على التليفزيون»، تتحدث عايدة عن والدتها، هى عكسها، تتابع الأخبار بشكل جيد: «باسمع النشرة وباشوف بتوع الجيش اللى بيموتوا، والأوتوبيسات اللى عمالة تتقلب والناس اللى بتموت، التليفزيون بيجيب كل حاجة، وربنا يهدى الحال»، ورغم متابعتها للأحداث فإنها تنسى سريعاً، لا تتذكر تفاصيل 25 يناير جيداً، لكنها تتذكر ما دار على هامشها من أحداث، كالهجوم على مول أركاديا والسطو على محلاته، نفس الشىء بالنسبة ل30 يونيو، ما يهمها منها هو: «الهوجة بتاعة الإخوان»، أما الحكومة فلا تعرف منها أحداً: «ما بعرفش الوزرا ولا المحافظ باعرف السيسى بس، عشان بيتكلم ويقول خلوا بالكم من نفسكم، وأنا بادعى له وباقول له ربنا معاك».
محمد هو الآخر لا تهمه التفاصيل، بقدر ما يهمه الحدث الرئيسى، تابع أحداث ذبح المصريين فى ليبيا: «لما شفت الناس بتتدبح زعلت، الستات فى منطقتنا كانوا بيصوتوا، والبنات كانت بتصرخ. اتخيلت لو أخويا معاهم كنت ممكن أعمل إيه، مش هيكفينى أروح للرئيس وأقول له هات لى أخويا»، وبالإضافة إلى الأحداث الجارية يتذكر محمد جيداً أحداث ثورة 25 يناير: «لما الشباب ماتت واتحبست»، يسخط عليها: «كانت خراب للبلد، حالنا وقف، والناس نامت، واللى كان شغال فى شغلانة سابها»، هو واحد ممن أوقفت الثورة حالهم: «كنت شغال أيامها ولما قامت الثورة قعدت فى البيت، ما كنتش لاقى الأكل آكله، كنا بنقمر العيش وناكل بيه وهو بايت»، أما ما بعد الثورة: «الدنيا خربت أكتر، الشباب بقت تخلص جيش وتسافر، تموت، وأمهاتها تزعل عليها»، وبعد 30 يونيو: «البلد بقت بحالات، ساعات تتعدل وساعات تخرب، والشباب بيشتغل شهر وينام سنة، الحال ما بقاش زى الأول»، يرى محمد أن الحال الواقف ليس مسئولية الرئيس السيسى: «الريس مش عارف يعمل إيه وإلا إيه، هى مش مشكلة الريس، دى مشكلة الناس، هو على قد ما بيقدر بيحاول»، رأى محمد فى السيسى نابع فى الأساس من حبه للرئيس: «أنا باحب السيسى، ربنا يخليه لينا، راجل زى العسل، مش عارف يعمل إيه وإلا إيه، عايز يعمل للشباب وللبلد»، يدافع عنه: «بتحصل تفجيرات فى الجيش هو ما لوش ذنب فيها، هو مش هيمشى وراهم، دى حاجة بتاعة ربنا»، يسأل مستنكراً: «لما بتنفجر قنبلة فى البلد السيسى هيقدر يمسكها ويخليها ما تنفجرش؟ هو بيعمل اللى عليه، بيدى التعليمات للظباط، والظباط بتقعد على الكراسى وما بتعملش حاجة، العساكر هى اللى فى الوش، بتموت، إنما الضابط لابس النضارة وقاعد تحت الشمسية مش بيجرى له حاجة»، كلام محمد جاء بعد تجربة، يقول إنه أدى خدمته العسكرية فى طريق الفيوم كما يروى: «دخلت الجيش وأمى جات تزورنى بقت بتشيل التراب على راسها، قعدت هناك سنة، كنا بنطلع مأموريات، وكنا بنتعب، ولما نشتكى من المعاملة يقولوا لنا الجيش يعنى الأقدمية، الدبانة اللى فى المعسكر أقدم منكم، وما لكوش أى حق هنا».
إعجاب محمد بالسيسى يجعله يفضله على الرئيس السابق محمد مرسى: «أحسن منه طبعاً، ماشى دوغرى وقانونى، لكن مرسى كان إخوانى وبيدبح فى الشباب»، وبسبب الإعجاب أيضاً يضع محمد، الرئيس السيسى فى خانة واحدة مع مبارك الذى يحبه: «السيسى زى مبارك بالظبط»، يدخل فى جدل مع أحد جيرانه الذى يرى أن مبارك أفضل من السيسى، يصر على رأيه: «الاثنين زى بعض»، يدافع بشراسة: «السيسى لسة ما عملش حاجة، ما كملش سنة حتى، والناس مش مدية له فرصة، مبارك قعد فترة طويلة، كان بيسرق صحيح، لكن كان فيه أمن وأمان، البنت من دول تطلع وتاخد راحتها وما حدش يخاف عليها، مش زى دلوقت، السيسى لو خد فرصة هيبقى كويس»، يبتسم وكأنه يرى صورة أمامه: «السيسى بيبقى شكله حلو وهو بيتدرب مع العساكر، راجل جامد والإخوان عايزين اللى يحكمهم ويشنقهم»، غضبه من الإخوان ينبع مما يصله من أخبار عنهم: «أنا أهو والشباب بتوع الحتة، ناويين اللى هيمسك فينا إخوانى هيقطع رقبته خالص من اللى بنشوفه، لما واحد فيهم يرمى قنبلة ويموّت له خمسين طفل ده كويس؟ هى الأطفال دى بتيجى بالساهل؟».
ومثل ابنها لا تخفى عايدة إعجابها بالسيسى: «زى العسل، سياسى وعارف الدنيا فيها إيه، وكتر خيره هو مع الشعب عايز يعمل حاجة»، تشاهده على الدوام وهو يتحدث: «كل ما أشوفه فى التليفزيون أقول ربنا معاه»، تقول إنها أعطته صوتها فى الانتخابات الرئاسية: «رحت انتخبته، وفاكرة الناس لما كانوا مشغلين تسلم الأيادى، أنا باحب الأغنية دى، وفيه ناس مش بتحبها، هى بتغيظ الإخوان»، ورغم حبها للسيسى فإنها ترفض تشبيه بعض الناس له بعبدالناصر: «عبدالناصر مافيش زيه الصراحة، لو دورنا فى الدنيا كلها ما نلاقيش زيه، كان كويس وابن حلال وما شفناش منه حاجة وحشة، كان ريس وزى الفل، والبلد كانت حلوة عن كده».
السيسى نجح أيضاً فى أن يحرك الجدة من أمام فرشتها الصغيرة لتعطى له صوتها فى الانتخابات الرئاسية الماضية: «ربنا يستر طريقه»، أمنيتها أن يعمل السيسى على إصلاح حال البلد: «لازم يوضب البلد ويعمل مصانع يشغل البنات والصبيان ويشيل الزبالة، ويخلى الدنيا عال العال»، أما الانتخابات البرلمانية فتنوى أن تصوت فيها: «هانتخب الحاج مسعود، ربنا معاه، بيطلع لنا شهرية 25 جنيه، ربنا معاه هو واللى زيه، يستره وأمة لا إله إلا الله»،
ولا يختلف رأيها فى مبارك عن رأى حفيدها: «مبارك ربنا معاه، ومرسى ربنا يسهل له، الرؤسا كلهم ربنا يرحم اللى مات، والحى ربنا يسهل له».
تمتلك رسمية وجهة نظر فيما يصل إليها من أخبار البلد، حكت لها ابنتها الصغرى عن المؤتمر الاقتصادى الذى انعقد منذ أيام فى شرم الشيخ، تبشرها: «إن شاء الله الخير جاى، فيه حاجة حلوة داخلة البلد، والناس اللى جاية من برة بتدفع وبتساعد مصر»،
لا تقتنع رسمية، ترد على ابنتها: «لو جات الدنيا بحالها فى مصر مش هتطولى حاجة»، ابنة الزمن الذى لم تعرف منه خيرا أبداً ترى أن ما يدخل جيب الحكومة لا يخرج منه أبداً: «الفلوس اللى هتيجى من برة هيقسموها على بعض وياخدوها»، تعاندها ابنتها: «فيه فلوس كتيرة جاية، وممكن يعملوا منها حاجة ليكى ولينا»، تسخر منها: «لا والنبى، أصل هيدوكى إنتى ولاّ غيرك، بس والنبى اتلمى»، تدير وجهها وتلوح بنصف جنيه أخذته من طفلة اشترت منها بسكويتاً للتو: «أنا دلوقت النص جنيه ده معايا، وماسكاه بإيدى، شوفتيه إنتى؟. هاقسمه على بناتى وأدى كل واحدة منهم ربع جنيه، هتشوفيه؟. أهى البلد كده. الخير اللى بييجى ما بنشوفهوش يا بنتى».
تحاول عايدة أن تبرر وجهة نظر والدتها: «هى مسكينة، قاعدة ليل ونهار فى الشارع، لغاية لما تخش تنام، الفلوس اللى بتبيع بيها على قدها، لو باعت طول اليوم تبيع بخمسة جنيه»، تتحسر على الظروف التى تجعلها لا تستطيع مساعدة أمها: «يا ريت بس كان معايا فلوس»، تلتقط ابنتها دنيا الحديث منها: «أمى كل اللى بتفكر فيه إنها تجيب لنا شقة نقعد فيها»، تشكو عايدة الغلاء الذى لا تجد له مبرراً: «مش عارفة سببه إيه الصراحة كل مادا الأسعار بتغلا»، تنظر إلى دنيا ابنتها وتتذكر جهازها الذى تتعثر فى تدبيره: «كل حاجة دلوقت بالغلا والكوا».
«يا سلام لو الواحد معاه 150 ألف جنيه»، يقولها محمد ويتنهد بحرارة: «أقل حاجة دلوقت 150 ألف جنيه عشان الواحد يعرف يتجوز، ويعمل شقة، عشان لو راح يخطب بنت الناس يقول معايا الشقة بقلب جامد، إنما دلوقت هى ونصيبها، مش بعيد يكون معايا 150 ألف جنيه، بس لما أطلع على المعاش»، يعيد غربلة دخله: «أنا دلوقت عندى 20 سنة، باخد 20 أو 30 جنيه فى اليوم، آكل بكام وأشرب بكام، وأدفع إيجار بكام، ده أنا لو اتجوزت دلوقت مش بعيد أخلى مراتى تشتغل، وأنا مستحيل، لو باشحت ما أخليش مراتى تشتغل»، يطرف بعينه ناحية أمه: «أيوه أمى بتشتغل بس غصب عنى، لكن مثلاً أختى أهى، ما بتخرجش تعمل حاجة، آخرها هنا، أنا باخاف عليها عشان فيه شباب مش كويسة».
لكنه لا يزال يعيش، ويتمسك بالأمل يحاول أن يجد لنفسه مكاناً تحت الشمس، يقتصد من دخله ليشترى ملابس جديدة: «باحوّش مبلغ كل كام شهر، 5 شهور مثلاً، ويمكن سنة، وباشترى بيهم طقم، كل عيد أو مرة فى السنة»، يرتدى محمد جاكيت جلد وبنطلون جينز لا بأس بهما، لكنه يراهما دون المستوى، خاصة عندما يسير فى الشارع ويجد الناس تتفحص لبسه: «بالنسبة للناس دى أقل حاجة عندهم، لكن عندى كل حاجة»، يبحث عن الترفيه فى أقل صوره وأرخصها: «لما باحب اتبسط باخرج مع أصحابى، آخرنا الكورنيش اللى قدام الرملة أو المراجيح اللى بجنيه وربع»، ورغم أن أبراج نايل سيتى تحتوى على سينما، فمحمد لم يدخلها أبداً فى حياته: «ما بادخلش السيما، مش معايا فلوس لها، التذكرة فيها بستين جنيه، أقل حاجة الواحد عايز له 2 باكو فى جيبه عشان ياكل ويشرب فيها من جوة»، ولذلك فلا سبيل له إلا سماع الأغانى على التليفون المحمول: «باسمع مصطفى كامل، وهانى شاكر وكاظم وعبدالحليم»، ثم يأتى التليفزيون: «باشوف الأفلام القديمة، فريد الأطرش وإسماعيل ياسين وعبدالحليم حافظ، ولو عايز أشوف أفلام على الدش باروح أتفرج عند عمتى، تليفزيوننا ما فيهوش دش ولا ريسيفر، شغال بالإيريال».
تفعل والدته عايدة نفس الشىء، لا متعة لها إلا التليفزيون: «هى دى السيما بتاعتى»، تحفظ مواعيد المسلسلات التى تذاع فى المساء، تكون قد أنهت عملها وعادت للمنزل تبحث عن أى وسيلة ترفيه: «باتفرج على سوق العصر وليالى الحلمية، باحب يحيى الفخرانى وصفية العمرى»، أما الأغانى: «باسمع طارق الشيخ وهو بيقول عجايب عجايب، وباحب الأغانى الحزينة كلها، زى أغانى حسن الأسمر، وصباح، وباحب أم كلثوم باسمع أغانيها كلها، عارفاها وحافظاها، أكتر واحدة باحبها أمل حياتى»، لا تشغل عايدة نفسها بأى شىء آخر، لا تركز فى وزير جاء أو آخر رحل، لا تعرف اسم رئيس الوزراء، ولا من هو المحافظ، وكذلك والدتها، ويفعل ابنها نفس الشىء: «ما أعرفش حد فى الحكومة، كنت عارف القائد اللى كان ماسكنا فى الجيش، كان اسمه أحمد بيه أبوالسعود»، يعترف: «ما بسمعش الأخبار بتاعة الوزرا اللى اتشالوا وإلا اللى اتحطوا»، لا تهمه فى كثير أو قليل، يهمه فقط أحوال البلاد المجاورة لمصر، يحلم بالسفر إلى الخارج: «نفسى أسافر فى أى حتة، دبى مثلاً، أقعد شوية، سنتين تلاتة وأرجع تانى، دلوقت ما بافكرش فى السفر لأن ما فيش سفر، لما الدنيا تهدا بس الأول».
تحلم جدته أيضاً بالسفر لتأدية فريضة الحج، لم يتح لها أن تفعلها من قبل، لا حج ولا حتى عمرة: «ما عملتش عمرة، ربيت اليتامى كأنى حجيت سبع حجات، مربية سبعة يتامى وشقيانة عليهم»، تسرح ببصرها فى الفراغ وتتصور نفسها سافرت للحج: «أطلع الحج بس عايزة مصاريف وعايزة فلوس»، أما عايدة فتحسم أمرها وتقول بشكل قاطع: «العمرة والحج بعد ما أستّر البت».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.