أقل من شهر.. جدول امتحانات الشهادة الإعدادية 2024 بمحافظتي القاهرة والجيزة    حى شرق أسيوط يزيل التعديات على مرسى نهر النيل ب«الدوان تاون»    من 8 ل12 ساعة.. قطع المياه عن عدة مناطق بمحافظة الدقهلية مساء السبت المقبل (تفاصيل)    الأسهم الأوروبية تنخفض عند الإغلاق مع استيعاب المستثمرين للأرباح الجديدة    بوتين يعلن اعتزامه زيارة الصين الشهر المقبل    الأهلي يختتم استعداداته لمباراة مازيمبي الكونغولي    موقف ثلاثي بايرن ميونخ من مواجهة ريال مدريد في دوري أبطال أوروبا    مباحث الفيوم تلقي القبض على المتهمين بإشعال النيران في فتاة بسبب خلافات الجيرة    طرح البوستر الرسمي لفيلم السرب    مسرح فوزي فوزي بأسوان يشهد احتفالات ذكرى تحرير سيناء    هالة صدقي: «صلاح السعدني أنقى قلب تعاملت معه في الوسط الفني»    تخصيص غرف بالمستشفيات ل«الإجهاد الحراري» في سوهاج تزامنًا مع ارتفاع درجات الحرارة    عضو بالشيوخ: ذكرى تحرير سيناء تمثل ملحمة الفداء والإصرار لاستعادة الأرض    بفستان أبيض في أسود.. منى زكي بإطلالة جذابة في أحدث ظهور لها    بالفيديو.. ما الحكم الشرعي حول الأحلام؟.. خالد الجندي يجيب    لماذا حذرت المديريات التعليمية والمدارس من حيازة المحمول أثناء الامتحانات؟    وزارة التموين تمنح علاوة 300 جنيها لمزارعى البنجر عن شهرى مارس وأبريل    فيديو.. مسئول بالزراعة: نعمل حاليا على نطاق بحثي لزراعة البن    الجيش الأردني ينفذ 6 إنزالات لمساعدات على شمال غزة    الكرملين حول الإمداد السري للصواريخ الأمريكية لكييف: تأكيد على تورط واشنطن في الصراع    أنطونوف يصف الاتهامات الأمريكية لروسيا حول الأسلحة النووية بالاستفزازية    "أنا مشجع كبير".. تشافي يكشف أسباب استمراره مع برشلونة    عامل يتهم 3 أطفال باستدراج نجله والاعتداء عليه جنسيا في الدقهلية    الأهلى يخسر أمام بترو الأنجولي فى نصف نهائى الكؤوس الأفريقية لسيدات اليد    المغرب يستنكر بشدة ويشجب اقتحام متطرفين باحات المسجد الأقصى    تشكيل الزمالك المتوقع أمام دريمز الغاني بعد عودة زيزو وفتوح    يمنحهم الطاقة والنشاط.. 3 أبراج تعشق فصل الصيف    في اليوم العالمي للملاريا.. أعراض تؤكد إصابتك بالمرض (تحرك فورًا)    6 نصائح لوقاية طفلك من حمو النيل.. أبرزها ارتداء ملابس قطنية فضفاضة    سبب غياب حارس الزمالك عن موقعة دريمز الغاني بالكونفيدرالية    استجابة لشكاوى المواطنين.. حملة مكبرة لمنع الإشغالات وتحرير5 محاضر و18حالة إزالة بالبساتين    دعاء يوم الجمعة.. ساعة استجابة تنال فيها رضا الله    تشيلي تستضيف الألعاب العالمية الصيفية 2027 السابعة عشر للأولمبياد الخاص بمشاركة 170 دولة من بينهم مصر    بيان مشترك.. أمريكا و17 دولة تدعو حماس للإفراج عن جميع الرهائن مقابل وقف الحرب    دعاء الاستخارة بدون صلاة .. يجوز للمرأة الحائض في هذه الحالات    مدرب صن دوانز: الفشل في دوري الأبطال؟!.. جوارديولا فاز مرة في 12 عاما!    مصادرة 569 كيلو لحوم ودواجن وأسماك مدخنة مجهولة المصدر بالغربية    إصابة سيدة وأبنائها في حادث انقلاب سيارة ملاكي بالدقهلية    جامعة حلوان توقع مذكرتي تفاهم مع جامعة الجلفة الجزائرية    رد فعل غير متوقع من منة تيسير إذا تبدل ابنها مع أسرة آخرى.. فيديو    تحرير 498 مخالفة مرورية لردع قائدي السيارات والمركبات بالغربية    طريقة عمل مافن الشوكولاتة بمكونات بسيطة.. «حلوى سريعة لأطفالك»    ضبط عامل بتهمة إطلاق أعيرة نارية لترويع المواطنين في الخصوص    محافظ كفر الشيخ يتابع أعمال تطوير منظومة الإنارة العامة في الرياض وبلطيم    "ميناء العريش": رصيف "تحيا مصر" طوله 1000 متر وجاهز لاستقبال السفن بحمولة 50 طن    أمين الفتوى لزوجة: اطلقى لو زوجك لم يبطل مخدرات    مشايخ سيناء في عيد تحريرها: نقف خلف القيادة السياسية لحفظ أمن مصر    مستقبل وطن: تحرير سيناء يوم مشهود في تاريخ الوطنية المصرية    أبطال سيناء.. «صابحة الرفاعي» فدائية خدعت إسرائيل بقطعة قماش على صدر ابنها    محافظ قنا: 88 مليون جنيه لتمويل المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر خلال العام الحالي    فن التهنئة: استقبال شم النسيم 2024 بعبارات تمزج بين الفرح والتواصل    هيئة الرعاية بالأقصر تعلن رفع درجة الاستعداد تزامنا مع خطة تأمين ذكرى تحرير سيناء    معلق بالسقف.. دفن جثة عامل عثر عليه مشنوقا داخل شقته بأوسيم    حدث ليلا.. تزايد احتجاجات الجامعات الأمريكية دعما لفلسطين    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسرة "السيدة زينب": كانت "طبقة".. وكانت "متوسطة"
الجدة تزوّجت فى سن 16 سنة أيام العدوان الثلاثى: «اتحملت جوزى 50 سنة.. مين تتحمل جوزها 5 سنين على بعض؟!»
نشر في الوطن يوم 24 - 03 - 2015

تتثاءب، تفتح عينيها تدريجياً، لا تقوى على حمل جسدها ورفعه من وضع الاستلقاء، تستعين على المهمة بما تيسر من أدعية وأمثلة، ترفع ببطء الأغطية التى تلحفت بها من نسمات الفجر الباردة، تتعجّب من عددها، يد تمتد إلى جوار سرير استلقت عليه، تجذب نظارة لا يتسنى لها الرؤية دونها، وتتمتم بصوت خافض لم يصل إلى مسامعها: «ربك رب العطا.. يدّى البرد على قد الغطا».. دوماً تسأل نفسها، ما الذى يوقظ حواسها فى هذه الساعة، إنها العادة اليومية التى واظبت عليها طيلة سنوات عمرها، منذ كانت شابة يافعة تقلد مثلها الأعلى، وإلى أن أصبحت جدة، لكنها آسفة لا تجد من يقلدها، دقائق ويرفع الفجر صوته فى السماء، ألفت الاستيقاظ وألفت معه مشكلاته: «هتوضى إزاى؟.. العيال كلهم نايمين». إشكالية لم تمل تكرارها، ولا التفكير فيها، بكل ما يستتبعه عليها هذا التفكير من ذكريات تراها مؤلمة، حين كانت المحرك الأول والأخير لأسرتها، أول عين تتفتح، وآخر عين تخلد إلى النوم، تهم صباحاً لقضاء احتياجات أسرة ورجل صارم، توقظ الجميع، يتحركون فى كل اتجاه بإشارتها، ويلبون أوامرها، وهى مجرد تلبية لتعليمات الرجل، صدى لصوته، ظل لحركاته، امتداد لوجوده، تتذكر الأيام فتسرق منها لحظات وراء لحظات، تهم منتفضة مستعيذة: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. الفجر هيفوتنى».
تعاود حركتها البسيطة المتأنية، رويداً رويداً تغادر فراشها، خطوات تسبقها فيها سلحفاة عجوز، لكنها تفى بالغرض، السكون المحيط بها يتزايد، بالكاد سمعت أذان الفجر، وبالكاد تتحرك لتلبيه، تمصمص شفاهها وهى تسمع الأذان متعجبة: «حتى الأذان اتقلت بركته».
تتذكر حين كان يوقظها أذان الفجر بصوت مؤذن السيدة زينب، تحدث نفسها: «كان الواحد يصحى مبسوط فرحان، صوت قوى وجميل وله خصوصية، تفتح الشباك تلاقى المسجد بيضوى فى وشك، تقرأ الفاتحة وتدخل جرى تتوضأ، مش مؤذن المعادى، صوته وحش وتقريباً خايف يؤذن الناس تصحى».
تتنازعها الأفكار والخواطر، تحاول إلهاءها عن مهمتها المقدسة، تعاود الاستعاذة من الشيطان الرجيم، وتواصل سيرها المتأنى نحو الوضوء، لا تبغى إنارة الطريق، حتى لا يوقظ الضوء الأحفاد، ممن اعتادوا الاستيقاظ بعد انتصاف الظهيرة:
«بيصحوا بدرى بس لما بيكونوا رايحين المدرسة، وأيام الإجازات مش قبل الضهر».
تعود لحديث النفس، وللاستعاذة أيضاً، تلوم نفسها على ما تصفه بأنه تدخّل فى حياة هؤلاء الصغار، تستعين بالمثل:
«يا مشغول بهم الناس، همك لمين خليته؟».
تعاود لوم نفسها من جديد:
«ما هما برضه شايلين همى».
تلقى بالعتاب كله على الأم، التى تتركهم للسهر حتى ما قبل الفجر.
«مكتوب على ورق الخيار، اللى يسهر الليل ينام النهار».
فتجد لهم عذراً، لكنها هى نفسها التى تعود إلى انتقادهم:
«عيال الأيام دى مش عارفين مصلحتهم، غير أهاليهم خالص».
عودة جديدة إلى الاستغفار:
«الشيطان مش سايبنى فى حالى، هِمّى يالا عشان تتوضى».
حركة مباغتة منها تحدث ربكة وضوضاء مفاجئة، يصحو على أثرها الابن، يغادر غرفته لاستطلاع الأمر، فيجدها وقد تعثرت فى طريقها نحو الحمام الملاصق لغرفتها:
«صاحية بدرى ليه يا حاجة؟»،
فتجيبه: «بدرى من عمرك يا ضنايا، الفجر حان، يالا قوم اتوضا وصلى معايا».
يعاونها على الوصول، ويهم بتلبية ندائها، لا يتذكّر الابن كم من المرات تكرر الموقف، من فرط تكراره، يتذكر حين كان استيقاظ الفجر فرض عين على الأسرة، لمجرد أن الأب قرّره، يصحو، فتصدح تكبيرات الصلاة فى البيت كله، تتداخل مع تلك التى تصدرها مكبرات الصوت المستقرة أعلى مأذنة أم العواجز، هكذا كان يلقّبها الأب الصارم، وهكذا كان يتلمس لديها الأبناء البركة، تمر الخواطر سريعة على ذهن الابن، يخرج ليؤم والدته فى الصلاة المباركة، ويناله من دعائها له ولأبنائه حظوظ الدنيا، قبل أن يغادرها إلى عادتها اليومية، إذ يظل المصحف حليفاً لها حتى يستيقظ الأحفاد.
من المصحف للجريدة، تغدو وتروح بين الاثنين، لا تتعثر فى القراءة، فطالما كانت متعتها، تلوم أحفادها على تركهم الكتاب، أى كتاب، سواء كان للمذاكرة أو للاطلاع، يثيرها أن تراهم خلف شاشات الكمبيوتر، أو أسرى لهاتف محمول يملك عليهم حواسهم، تتمنى لو يعود بها الزمان، فتلحق ما فاتها من قطار المعرفة، تتذكّر تفوّقها ونبوغها، بالمقارنة بأقرانها، وتتذكّر جيداً الدراسة التى شغلت بها، حتى أتاها النصيب، فى عام 1956، تاريخ محفور فى ذاكرة، أبت الأيام والتفاصيل أن تمحوها، شهدت فيه العجوز تحولين، وبالأحرى عدوانين، عدوان سلب مصر حريتها، قاده عليها تحالف 3 دول، وعدوان آخر حملت معه الابنة الوسطى لأسرة بسيطة لقب حرم الأستاذ إبراهيم، كانت تعرف أن جارها هو نصيبها، تسنت لها رؤيته مرة أو اثنتين، تعرفه جيداً، فقد كان صديقاً لوالدها رغم فارق السن، لم تندهش حين تقدّم لطلب يديها، ولم تندهش تلبية والدها طلبه.
«على زمانا كان الواحد بيشترى راجل بجد، مش مجرد كلمتين يتقالوا».
تقول فى حق زوجها الكثير، تروى عنه ما قد يعجز هو نفسه عن روايته، إذا أمد الله فى عمره.
«عشت معاه 50 سنة ونص.. مين دلوقتى تستحمل جوزها 5 سنين على بعض».
تعزى انهيار الأسر فى مصر إلى اختفاء الست الصبور الحمول، إلى ما وصفته بأنه دلع، وراحة وأيام عز، عاشها أبناؤها وأحفادها، على خلاف ما عانته فى بيت والدها، ومنه إلى بيت زوجها، الذى لم يغادر الحى نفسه بعبقه وسحره وأصالته.
صندوق ذكريات صغير، تحن إليه من آن إلى آخر، تتفحّصه قبل أن تفتحه، وكأنها فتحت بوابة إلى الماضى، فيه قصاصات تحمل عنها كل شىء، صورة لها وهى تتم زفافها إلى عريسها «سى إبراهيم» كما اعتادت نداءه، تتأمل ملامحها الشابة الخجول، كيف لطفلة فى عمر ال16 أن ترتدى الأبيض وتجلس إلى جوار عريس، سمعت الانتقاد مرة على لسان ابنها أحمد، معترضاً على ما سماه «زواج القاصرات»، عاتبته حينها:
«طب ما انا اتجوزت صغيرة، طلعونى من أولى إعدادى عشان أتجوز أبوك.. إيه العيب يعنى، وعشنا وربيناكم أحسن تربية».
يتعجب الابن، الذى يحظى فى وسط العائلة بأوصاف المختلف والغريب وغير النمطى، يقودها إلى جدال لطالما ملّت نتائجه.
«مابعرفش أغلبه؟».
قبل أن ينهيه معها بلطفه المعتاد:
«وهو فيه زيكم يا أمى، ستات زمان دول مايتعوضوش».
تضحك ساخرة كاشفة عن أسنان لم تغادر موقعها بعد، رغم ما وصفته بأنه عمايل الزمن وبلاويه، وتداعبه:
«عشان كده رحت فتحت بيتين واتجوزت اتنين؟».
فيواصل الضحك والمداعبة:
«ويا ريتهم نافعين زيكم.. الجيل ده نَفَسه قصير».
فى الصندوق نفسه صور الأبناء، 5 هم من تبقوا من «7 بطون»، توالوا عليها بمنطق طالما آمنت به. «أصل العيال عدية».
لم تسمع عن موانع أو وسائل تنظيم النسل إلا وهى تنجب «خديجة» أصغر أبنائها والفتاة الوحيدة وسط الصبية، وبالأحرى لم تؤمن بها، فلم يكن السياق يسمح بطفلين وكفى، لكنه الآن أصبح سياقاً حتمياً، لا مفر منه، نصحت به أبناءها، وزوجاتهم وبررت نصحها:
«عشان تعرفوا تعيشوا وتربوهم.. الحياة بقت صعبة، وبركتها قلت».
تسرح من آن إلى آخر فى الصورة المعلقة على الجدار، تتذكر الرجل الذى خطفها من بيت الأب، عامان من القلق عاشتهما فى انتظار أن يمن الله عليها بالذرية، القلق عصف بها، فالحماة تنتظر، والزوج ينتظر، والأم تنتظر، والأب ينتظر، الجميع يسأل، من فرط اعتيادهم على «الولادة بعد 9 أشهر من الزواج»، كان عزاؤها الوحيد هو ثقتها فى كرم الله، تفتح شباكها وتطل على «أم العواجز»، تدعو الله بحكم قربها منها، تطلب شفاعتها فى الرزق، وتستعير من قاموس الجدات أمثال الصبر، كانت تنتظر أن تضحك لها الدنيا بفرحة الضنا:
«الدنيا زى الغازية.. ترقص لكل واحد شوية».
وما إن حدث، رزقها الله ب«محمد»، استقرت واطمأنت وراقت لها الدنيا، لتصبح أماً ل5 أبناء قبل أن تتم عامها ال25، تتضاءل الفروق العمرية وبينها وبينهم، لتشعر فى لحظة من اللحظات، «دول اخواتى مش ولادى».
يفاجئها دوماً ثانى أبنائها «أحمد»، بانتقاد كل ما اعتبرته هى تضحية من أجلهم: «وليه تخلفى 5 عيال وانتى لسه ماكملتيش 25 سنة؟»، فترد عليه وكلها إيمان بأن ما فعلته هو الصواب:
«كلمة يا ريت ما تعمر بيت»، و«العايط فى الفايت.. نقصان فى العقل».
ليس لينتهى جدال الابن المستمر دوماً، لكن ليتنقل إلى موضع آخر.
حديث الذكريات لا يثنيها عن طقوس يومها، تجلس أمام إفطارها، الذى أعدّته زوجة الابن قبل أن تغادر إلى حيث طلبات البيت والأبناء، تتمعّن فى ملعقة الفول وقطعة الجبن وكوب اللبن، إفطارها وحده يتكلّف ما لا يقل عن 7 جنيهات، تتحسر على أيام عاشت فيها وأنفقت على أبنائها الخمسة براتب لا يزيد على 10 جنيهات، لا يمنحه لها الزوج:
«ماكانش على أيامنا حاجة اسمها الراجل يدى لمراته مرتبه وهى تتصرف، ماكانش راجل يسيب مراته تتحكم فيه، كان يقول لى اطلبى وأنا أجيب، وأنا الصراحة كنت بادبر وعارفة البير وغطاه، والعيال بلاعة مافيش حاجة تكفيهم، وكانت مستورة ببركة الرضا».
تعرف أن الأحفاد لن يشاركوها الإفطار، فلكل منهم مزاج ومطلب خاص.
«فيه اللى بينزل من غير فطار، وفيه اللى فطاره حاجات غريبة كده، هنقول إيه، اللى يلاقى دلع ومايتدلعش تحرم عليه عيشته».
تنفق الجدة جل وقتها فى لوم أبنائها على ما تعتبره حياة رغدة سهلة وفروها لأبنائهم، تحن عليهم بالقول: «اخشوشنوا فإن النعمة تزول». وترى فى الزمن أكبر غادر، تطالبهم دوماً بالحرص منه والاستعداد له، وتستعير قصتها لتقصها على من هم فى حاجة إليها، من الأبناء والأحفاد، لكنهم دوماً
«لا يقدّرون تجارب الكبار، لا يتعظون بما مررنا به، العيل عايز يجرب كل حاجة بنفسه، محدش عايز يسمع اللى فى سننا، وكأننا أعداء له، مع أننا بنوفر عليه جهد كبير، وبنديله خلاصة سنين تعب وشقا حقيقية، لكن نقول إيه، قصر الكلام فى الزمان ده منفعة».
لا يقوى أحمد الذى أتم لتوه 54 عاماً على معارضة أمه، لكنه لا يمل جدالها، فالتباين بينهما حاد وواضح، هى تؤمن بكل ما يؤمن به جيلها من قيم وتقاليد، وهو اعتاد الخروج عن المنطق والمألوف ومحاربة الطبيعى من أجل فعل ما يروق له وحده، هكذا اعتاد منذ أن كان صبياً، وهكذا احتوته هى ووالده ولم يشاءا أن يجبراه على فعل، أحياناً ما تندم «الجدة إكرام» على الحرية التى منحتها للأبناء ومنهم «أحمد»، حرية سبقت عهد الحريات بسنوات، لكنها لم تخلُ من احترام وتقدير، حرية تراها مختلفة عن تلك التى اقتنصها الأحفاد، بفعل ثوراتهم وتعليمهم المختلف ومستوى معيشتهم الثابت، حرية تجاوزت فى بعض الأحيان حدود اللياقة والأدب المطلوبين فى مثل هذه السن:
«للأسف الجيل ده كله كده، رأيه من دماغه، ومابيعجبوش حاجة ولا حد، بكرة يندموا أنهم ماسمعوش كلام الكبار».
كل ما تعملته «الجدة إكرام» من والدتها وأشقائها الكبار، تحطم على يد الأبناء، فالأسرة التى تستقر منذ سنوات النشأة وحتى التطوّر تقبع فى حدود الطبقة المتوسطة، بكل تفاعلاتها، الطبقة التى عاشت مستورة، تؤمّن يومها وغدها على الأكثر، ويرتبط استقرارها بدوام عمل أبنائها وقدرتهم على العطاء، لا يتكئون على إرث ولا رأسمال، قدر ما يتكئون على علم سعوا إليه ولم يضل سعيهم، رغم أن الزمان لم يعد للعلم وأصحابه، قدر ما أصبح لمن يملك مالاً أوفر، عاشت الجدة تؤمن ب:
«دبر غداك تلقى عشاك»، و«شعرة من هنا وشعرة من هنا يعملوا دقن».
ولم تفكر يوماً أن تعيش وفق مبدأ:
«جوع سنة تغتنى العمر، إذ تؤمن أن «جوعة على جوعة.. خلت للعويل رسمال».
وبقدر حزنها على سفر ابنها الثانى بين الخمسة إلى السعودية فى مطلع التسعينات للعمل، بقدر فرحتها بعودته وأسرته مرة أخرى بعد أقل من 3 سنوات، وهو ما تفسره الأم فرحة بأنه:
«اولادى زى السمك مايعرفوش يعيشوا بره البلد دى».
بينما يفسره الابن المهندس المتخصص فى هندسة الاتصالات بتفسير أبعد وأعمق: «السعودية مجتمع لا يشجّع على التطوير، من يدخله سيظل على حاله فيه، وأنا أكره التنميط، وأبحث عن كل جديد فى مجالى، شعرت أن السعودية فلوس وبس، وكنت أبحث عن المركز الإدارى، وأدركت أنه لن يتحقق لى هناك، فضلاً عن كونى بالفعل لا أريد الحياة خارج مصر».
لم يكن سهلاً على مهندس شاب تتاح له فرصة العمل فى السعودية أن يغادر كل هذا ويعود إلى مصر، خاصة أن المناخ الطارد للمواهب لم يتغيّر فى غضون ال3 سنوات التى غادرها فيها:
«لما رجعت، أدركت أن المركز الإدارى لن يتحقق لى فى مصر أيضاً، فغيّرت أحلامى وتخليت عن هذا الجانب فيها».
يؤكد أن غالبية المصريين الذين قابلهم فى المملكة يريدون العودة، لكن تكبّلهم قيود المعيشة وعدم وجود بديل، الكل مضطر إلى البقاء وليس راغباً فيه، يؤكد «أحمد» هذا ويسحب القاعدة على العاملين فى دول الخليج بأكلمها:
«الخليج عبارة عن فلوس، فقط فلوس، أما الإمكانيات الإنسانية والعلمية، فمنهارة بلا مبالغة».
تقاطعه «الجدة إكرام»:
«ما انت سافرت بره وبرضه رجعت تانى وماكملتش».
فيجيبها هذه المرة، وقد تخلى عن جداله وعناده:
«أمريكا أقرب الدول لتخصصى وطموحى، لكننى لم أقوَ على العيش فيها، وزى ما قلتى يا أمى ما اقدرش أبعد عنك ولا عن مصر».
يتذكّر «أحمد» عودته، وكمّ البؤس الذى صاحبها، لم يتصور أحدهم أن خريج الهندسة المعيّن فى البنك الأهلى يقدم استقالته قبل سفره إلى السعودية، لم تصدق العائلة قراره، ولم يجد الرجل الذى تزوّج حينها وأنجب طفله الأول «محمد»، وأعقبه بسنوات «خالد» ما يدفعه للإبقاء على عمله الحكومى، فى حين أنه سيسافر للعمل الحر خارج مصر، شعر أنه لو فعلها لأصبح من قاتلى الفرص والأمل، فتخلى عن وظيفته عن طيب خاطر، مقرراً البداية من جديد، ولأن رهانه لم يخب يوماً، كما أن قناعاته وآراءه التى يستعين بها جميع من حوله، سواء الأبناء أو الإخوة والأصدقاء، دوماً ما يحالفها التوفيق، فكان وضعه الحالى خير دليل على قراره:
«عندى شركة معقولة للسوفت وير، والحمد لله شغلى ماشى كويس جداً، وكله بفضل الإخلاص فى العمل».
لم يرق الحديث للأم، ترى فى الفرص التى أضاعها الابن ما كان سيغنيه عن كثير من التعب والمشقة فى حياته، لكنها:
«الدماغ الناشفة.. طالع لأبوه، كلهم طالعين لأبوهم، ما عدا خديجة بنتى، هى اللى طالعة طيبة وحنينة زيى».
يهاتف «أحمد» والدته كل صباح للاطمئنان عليها، تفاجئه بقولها المتكرر:
«جيت على السيرة، كنت لسه حالاً فى بالى، فطرت وقعدت أفتكر عمايلك فيا».
يواعدها الابن على لقاء فى المساء، يودّعها بسؤاله المعتاد:
«عايزة حاجة أجيبها لك معايا؟».
فتجيبه إجابتها التى لم يمل الابن سماعها رغم تكرارها:
«أعوزك سالم غانم، أخوك مش مخلينى محتاجة حاجة، أنا عايشة فى الدنيا دى بحسكم والله، بس ماتنساش تجيب لى معاك الجرايد».
حول الجريدة، أى جريدة تدور مناقشات الأسرة، وبالأحرى جدالها، فلكل من أجيالها رأى كثيراً ما يتعارض مع الآخرين، ليس الجريدة فحسب، هى ما يفضح خلافهم واختلافهم، حين يشاهد «الحفيد محمد» جدته ممسكة بجريدة تمعن النظر فى المكتوب من خلف عدسات طبية سميكة، محاولة استجلاء طلاسمها وقراءتها، يبتسم وهو يخاطبها:
«يا جدتى هو لسه فيه حد بيقرا الجورنال، أفتح لك الموقع تقرى منه أحسن والخط أكبر».
يقولها ويده تمتد لها بموبايل حديث تتجاوز شاشته حجم يديها، فتبعده عنها، وكأنه قد اقترب منها بوحش كاسر:
«ابعد البتاع ده عنى، مابحبوش، هو فيه زى الجورنال وقراية الجورنال، مواقع إيه ونت إيه، هو فيه حاجة جابت الجيل ده ورا غير النت والمواقع».
لا تفرغ الجدة من حديثها، حتى يبدأ الحفيد حديثه المعترض:
«إزاى الكلام ده، كل الدراسات بتقول إن المستقبل للديجيتال، انتو كل حاجة جاية من الشباب ترفضوها لمجرد أنها شباب، يا تيتة التطور مطلوب، مش عيب إنك تمسكى موبايل تقرى منه، مش بدعة يعنى، مبارك مشى فى حركة واحدة عملها شباب جمعهم الإنترنت والفيس بوك، العصر اتغير يا تيتة».
لم يغير حديثه شيئاً فى قناعتها، ولم يغير إصرارها على ما تريده شيئاً فى قناعة الشاب، لم يزد الأمر على انتقال الجدل إلى موضع آخر:
«ماتجيبش سيرة مبارك، والنبى قطع وقطعت أيامه».
هكذا ترد الجدة، لتمنعه حتى من مجرد ذكر الاسم، فالأسرة إن اجتمعت على رأى، فإنه يكون ضد «مبارك» وسنوات حكمه:
«كلنا مابنحبوش، ماكانش مخلص، أصل المخلص ربنا بيكرمه، لكن ده ربنا عاقبه وعاقبنا معاه، إننا استحملناه 30 سنة».
لم تعرف الجدة الرخاء طيلة سنوات حياتها، اللهم إلا فى عهد «السادات»، تراه أكثرهم توازناً، بين «عبدالناصر» و«مبارك» وحتى «السيسى»، تسقط من حساباتها ذلك العام الذى «احتل الإخوان مصر فيه»، حسب وصفها، وترى ما قبله انهياراً كان يحتاج رجلاً مثل «السيسى»، يملك إرادة وإخلاصاً للتغيير، ورغم أنها لم تنتخبه، بل لم تشارك فى أىٍّ من استحقاقات الدساتير المختلفة المتعاقبة على مصر، ولا تعرف حتى شكل اللجنة الانتخابية، فإنها تؤمن بقدرته ومهاراته، وهو ما يثير حنق الابن أحياناً، والحفيد دوماً، وحسب الابن «أحمد»:
«مشكلة جيل ماما إنه بيحب ويثق قبل ما يشوف أى أمارات، السيسى رئيس له مدة معينة ومطلوب منه مهام معينة، فلماذا التماهى مع أى شخص لمجرد مشاعرنا نحوه؟ نثق فيه لأنه خيارنا المتاح، وليس الأوحد، ولازم الناس كلها تعرف ده».
تساؤل الابن جر إليه غضب الحفيد، الذى رفض «السيسى» بداية، واتجه إلى معارضته بمنح صوته إلى حمدين صباحى، يرى الحفيد «السيسى» مسئولاً عن دماء الإخوان التى أريقت فى «رابعة العدوية»، قبل أن ينتصر له فى جهده لمحاولة إنقاذ البلاد، يرى أن «رابعة» وما تلاها من أحداث نقطة سوداء ستظل معلقة فى رقبة «السيسى»، وهو ما يرفضه «الأب أحمد»، بل يتعنت فى وصف من يعتقد هذا بأنه مضحوك عليه، لا ينتصر الأب لأى ضحية يحمل أجندة وأيديولوجية خرج من أجلها وذهبت حياته فداءً لها، قدر ما ينتصر لذلك الرجل الذى يخرج ليؤدى عمله، سواء كان مواطناً عادياً أو شرطياً ويضحى فى لحظة شهيداً لعمل إرهابى، ليس له فيه ناقة ولا جمل، هنا تجد الجدة لنفسها موضعاً فى النقاش:
«طبعا بيصعب عليا الجيش والشرطة، ومابيصعبش عليا الإخوان، الإخوان اللى كانوا بيتداروا ورا الستات، أهى الستات هى اللى خرجت وأسقطتهم، أصل ابن آدم يتربط من لسانه، والبهيم من ودانه».
وكما لا تختلف الأسرة فى تقييمها لعهد «مبارك»، لا يختلفون فى وصفهم لعهد الإخوان، على قصره، اللهم إلا الحفيد، ممن تقاطع معهم عبر أصدقائه، وشكل ما يتعرضون له فى السجون فى عهد «مبارك» وما بعده نقطة تعاطف لا يمل الركون إليها، ورغم التجربة التى تملكها الأسرة مع الجماعة قبل أن تتحوّل إلى إرهابية، فإن الحفيد لا تقنعه أى تجارب غير تلك التى يخوضها، لا تنقعه نصائح جدته وتحذيرات والده، ولا يرى فى الإخوان الشر المطلق: «هُمّه اتجاه فكرى، طغى عليه العنف فترات، لكننا لا يمكن أن نغفله».
يسارع الشاب العشرينى إلى النفى المعتاد:
«وطبعاً أنا مش إخوان، ومش متعاطف معاهم، بس عندى عقل وبافكر، وأرفض ثقافة القطيع، فى تأييد السيسى أو حتى الهجوم عليه».
تحذره الجدة:
«يا ابنى ده عمك محمود لما راح معاهم كان هيضيع، لولا أن ربنا نوّر بصيرته».
فيجيبها الشاب بما لا تتوقعه:
«راح بمزاجه ورجع بمزاجه يا تيتة، وهو ده اللى إحنا عايزينه، نبقى أصحاب قرار فى حياتنا».
تتذكر الجدة هذه السنوات، فى الحى الشعبى العريق، حين كان للسيدة زينب باع طويل فى عمل الإخوان، حينها انجرف «الشاب محمود»، فيما قاوم «أحمد»، لكنه ترك شقيقه الأصغر للتجربة:
«الفرق بينا مش كبير، سنة ونص، كان لازم أسيبه يتعلم لوحده ويجرب، لو اقتنع يكمل، ولو رفض على الأقل هيكون اتعلم، وده اللى حصل بالفعل».
تستعد الجدة لمهامها المقدّسة من جديد، ترجئ حديث الذكريات الذى بدأته مع صندوقها الأثير، لتلبى نداء الظهر، الصلاة فى موعدها، القيمة التى لم تغادرها على مدار 75 عاماً، منذ كانت طفلة وحتى صارت جدة، يحين موعد الأذان، لم تزل على وضوئها، تركعها جالسة لآلام الظهر ووجع العظام، تنهى صلاتها دوماً بالدعاء، قد يستغرقا وقتاً أكبر من الذى أنفقته فى الصلاة، تدعو لأبنائها وأحفادها، ولمن عاش من أسرتها، ولمن سبقها إلى الجنة، تختمه بالدعاء لمصر، فى كل صلاة: «اللهم ولّى من يصلح أمورنا، اللهم لا ترينا فى بلدنا ما لا تحب وترضى، اللهم أقم عليها ملكاً عادلاً، يطعم جائعها ويكسى فقيرها».
تفرغ من الصلاة وخيط الذكريات يهاجمها من جديد، أمس الأول اجتمعت الأسرة كالعادة فى بيت «محمود»، الذى فاز دون أشقائه بموافقة والدته على إقامتها معه، حان موعد الصلاة فقام «أحمد» إماماً لها ولمن فى البيت وقتها:
«اتجنن لما لقانى بادعى لمصر، دايماً يقول لى بتدعى لمصر ليه، هو احنا محتاجين دعاء، فأرد عليه وأقوله يا ابنى ومين مش محتاج الدعوة».
يقسم «أحمد» أن مصر قوية، عظيمة، صلبة، رغم شعور أبنائها المستمر أنها ضعيفة وبحاجة إلى تدخل إلهى دوماً، يبرر نظريته:
«الاحتكاك بالخارج يبين أن المصريين أقوياء، ولديهم قدرة على الحياة تفوق أكثر الشعوب الرغدة، ربما لانعدام المشكلات فى هذه البلاد، والمشكلات هى عصب التقدم والحلول والتفاعل».
هذه المرة لم تشأ الجدة إطلاق جدل جديد بينها وبين ثانى أبنائها، حين تقرر إنهاء النقاش، تستعيد موروثها الشعبى من الأمثال، لترد عليه: «ناس للمعالق، وناس للمساوق».
قد يفهم الابن مرادها، لكنه حتماً يظل عصياً على فهم الحفيد، كثيراً ما يستوقفها:
«ما تكلمينا عربى يا تيتة، تقصدى إيه بالكلام والأمثال دى؟».
فتداعبه الجدة العجوز بابتسامة تكشف عن مسحة جمال لم تغادرها بفعل السنون:
«دى حاجة لو فهمتوها تبقى عُمد».
ترى الجدة أن فلاح جيلها يكمن فى اعتماده أكثر من غيره على حكم ومأثورات من سبقوه من أجيال، وعلى العكس ترى فشل وتراجع أجيال حفيدها هو محاربته لمن سبقوهم من أجيال، منطقها لا يعجب الحفيد بالقطع، فخريج الهندسة قسم اتصالات سار على درب أبيه فى التمرّد، وقرر الخروج عن جلبابه والعمل فى القطاع الخاص، بعيداً عن شركة والده، حتى إن جمعهما التخصص:
«بره شركة بابا هاخد تقديرى الصح، لكن فى شركة أبويا هيبقى تقديرى الوحيد إنى شغالى عند أبويا».
5 سنوات من العمل، أضحى خلالها الشاب من المميزين فى مجاله، يعتبر نفسه من جيل المحظوظين، ممن تعلموا وعملوا بشهاداتهم، دخله الشهرى بدأ ب800 جنيه، قبل أن يصل إلى 10 آلاف جنيه، يعتبره مبلغاً متاحاً لكل من يعمل فى هذا المجال ويتفوّق فيه، لا يفكر فى السفر إلى الخارج، لاعتبارات تبدو كأنها أرث عائلى:
«ماحبش أشتغل أو أعيش بره مصر، إلا لو كان العائد المادى اللى هيجيلى 3 أضعاف دخلى الحالى».
لم يكن «محمد» وحده فى هذا الوضع المستقر نسبياً:
«تقريبا أغلب دفعتى شغالين فى المجال نفسه، وكلنا وضعنا مستقر».
لا يعنى هذا انفصاله عن أزمات الشباب فى مجتمعه، فمن بين أصدقائه من لا يزال يبحث عن عمل، ومن يعمل بمقابل لا يزيد على 800 جنيه شهرياً، وكلاهما يبحث عن عمل فى الخارج، يقدّر «محمد» الاثنين ويرى فى وضعيهما ملخصاً لحال البلاد كلها، والطبقة المتوسطة التى ينتمى إليها بشكل خاص، والتى تزايدت رقعتها لتشمل مجموعة طبقات داخلها، تقل عن الأثرياء، وترتفع بقدر عن الفقراء.
من حين إلى آخر يقطع أحد الأحفاد استرسال ذكريات الجدة، صوت تليفزيون مرتفع يقتحم خلوة الجدة، تعلّى صوتها تنادى على الحفيدة:
«وطّيه شوية».
تقاوم للعودة إلى ذكرياتها، لم تكن تغادر موقعها من أمام التليفزيون، حدث هذا طوال فترة ثورة يناير، فالقلق كان يعتصرها على أبنائها، ممن قرروا النزول والمشاركة فى الثورة وإسقاط «مبارك»، يومها دار بينهم حديث فارق:
إكرام: ماتنزلوش يا اولاد، محدش عارف إيه اللى هيحصل.
محمود: عايزانا نسكت على حال البلد ده يا أمى، نسكت ونسيب حق اولادنا وأحفادنا، يبقى مانستاهلش نعيش فى البلد دى.
إكرام: إحنا الحمد لله مستورة معانا وعمرنا ما اشتكينا، اللى بينزل ده بيبقى له تار وعايز يخلصه.
أحمد: يا أمى البلد بتاعتنا كلنا، لو وقعت كلنا هنقع، ولو قامت كلنا هنقوم، ووضعنا ده مؤقت، مش هنفضل على طول مستورة معانا، ومش هنفضل على طول بعيد عن الشكوى».
هنا تدخل «الحفيد محمد» فى الحوار، يؤكد أنه لم ينزل ليشارك فى الثورة منذ بدايتها، سواء يناير أو تبعتها فى 30 يونيو، لكنه شارك لضيقه من نظام حكم «مبارك»، يؤكد:
«حكاية أن اللى بينزل لازم يكون متضرر غلط، كلنا قلبنا على البلد، ولو البلد دى ماشية صح زى ما بيعلمونا فى الكتب، المفروض يبقى مستوانا أحسن، عمرى ما كنت من اللى مش لاقيين ياكلوا، أصحابى كلهم من المعادى، كلنا طبقة متوسطة اتربيت فى السيدة، وتعبنا وكافحنا عشان نوصل لعيشة مريحة نسبياً».
مشاركته فى الاستحقاقات الدستورية كانت على استحياء، كما جدته، يختلفان تمام الاختلاف، حين تأتى سيرة «الفريق أحمد شفيق»، ينعته الشاب بصفات تراها الجدة تجاوزاً فى حق الرجل، الأصلح لقيادة مصر وقت ترشّحه:
«كنت مستعدة أديله صوتى، ده من الجيش وعارف حال البلد وعايز يصلحه».
استشاط الشاب غضباً من الحالة التى تصدرها الجدة عمن يسميه «الشفيق فريق»، فيدور بينهما الجدل العنيف، يعايرها بتشجيع «شفيق»، فترد عليه معايرة إياه بتشجيع حمدين صباحى، يعلن الشاب تراجعه عن تأييد «صباحى»:
«لم يعد يمثلنى، بعد فضيحة ال3%، والجيش على راسى بكل من فيه، لكننى أرفض سياسات البعض، ممارسات طنطاوى فى المرحلة الانتقالية، بعض ممارسات السيسى تجاه الإخوان، لكننى الآن أشجع السيسى، وأرى فيه المستقبل الحقيقى، بعدما بدأت الخطوات الفعلية فى العمل».
وقفة قوية اتخذتها الجدة تجاه الحفيد، حين سمعت بهتافه: «يسقط يسقط حكم العسكر».
لم يكن الموقف للجدة فحسب، شاركها فيه «الأب أحمد»، كلاهما رفض الهتاف، ورفضا ترديد الحفيد له، يومها أجلساه بينهما ليوضحا له الفرق بين الجيش والعسكر وقادة الجيش والعاملين بالسياسة منهم، يومها شعر «أحمد» بالندم، فلم يتبع الأب طريقة الجد فى التربية، يرى أن الحرية التى منحها وجيله لأبنائهم لم تكن صحيحة فى مجملها:
«إحنا أول جيل ربّى وكان له رأى، منحنا لهم حرية مطلقة، ندفع ثمنها الآن، ورغم ذلك سعيد بها فى مجملها، وأول حاجة وضّحتها لابنى أن مصر لا يصلح معها إلا الحاكم صاحب الخلفية العسكرية، ودللت له على الأمر من واقع التاريخ».
يستشيط الأب غضباً وغيظاً حين يأتيه ابنه بخبر مصدره «الفيس بوك»، ينصحه ويقنعه أن مواقع التواصل ليست مصدراً للأخبار، قدر ما هى مصدر للشائعات، رأى «المهندس أحمد» لم يكن من فراغ، بل بناءً على تجربة وممارسة على هذه المواقع، التى يصفها بأنها تقطع التواصل وتنشر الجهل على عكس ما يعتقد البعض، ولع أبنائه الأربعة بهذه المواقع، وبجلسة الكافيهات يراه الأب إهداراً لكل فرص المتعة التى قد يحصلون عليها، متعة القراءة كمثال، أو متعة الكمبيوتر كمثال، وهو ما تعتبره الجدة أيضاً إهداراً لفرص متعة أخرى، متعة القراءة، متعة لقاء الأسرة واجتماعها، متعة قراءة القرآن، يؤمن الثلاثة بأنه لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع، لكن إيمانهم هذا يتحطم على صخرة عدم اقتناع كل منهم بهواية الآخر.
أمام التليفزيون، تستقر «الجدة إكرام»، تتابع عن كثب عدداً من المسلسلات، ترى فيها دراما الحياة، لا مانع من متابعة برنامج يقص عليها أحداث اليوم، لا تفضّل مذيعاً على آخر، ولا قناة على أخرى، عكس «الابن أحمد» الذى يفضّل الاستماع إلى كل وجهات النظر، سواء من الجزيرة أو صدى البلد أو العربية، على عكس الحفيد محمد، الذى قاطع متابعة التليفزيون بعدما فقد الإعلام مصداقيته بالنسبة له، يومها شاهدت الجدة تقريراً مصوراً عن السجناء من الشباب، لم تمصمص شفاهها.
«سألت ابنها أحمد: مالهم دول يا أحمد، محبوسين ليه؟.
رد عليها أحمد: عشان المظاهرات يا أمى، بيتظاهروا من غير تصريح، فاكرين نفسهم ممثلين عن الثورة.
تدخل محمد: وهل يعتبر كافياً لسجنهم؟.
أحمد: بالنسبة لوضع الدولة الحالى يعتبر سبباً كافياً لكل شىء، أنت تواجه الإرهاب، وتواجه أزمات اقتصادية، لا وقت الآن للتظاهر من أجل أى شىء، وأكررها عليك، لا أتعاطف مع صاحب الأيديولوجية.
محمد: يعنى شيماء الصباغ تموت، وحادثة الدفاع الجوى تحصل والناس ماتغضبش وتخرج، لو استمر الوضع ده أكيد هتقوم ثورة ثالثة، تعبنا من الدم المهدر ببلاش.
أحمد: لكن هذه الحوادث مردود عليها، بأن فى كل فريق وفئة فاسدين ومغرضين وشرفاء.
محمد: يا بابا انت ماتعرفش الإخوان بيعايرونا بإيه، بيقولوا لنا انتو انضحك عليكم فى 30 سونيا، وشايفين كل اللى بيحصل سواد.
إكرام: وهو فيه حد عاقل يمشى وراء الإخوان، كانوا نفعوا نفسهم.
أحمد: يا أمى ده جيل سطحى، المفروض يقرأ ويفهم، يسمع ويقيم، مش ياخدها مسلمات، وأساساً اللى ليه فضل فى ثورة يناير اللى بيفتخروا بيها، هو جمال مبارك، لأنه سد فى وجوههم كل آفاق الأمل، ورغم ده عندى أمل كبير فيهم وفى بكرة».
عند الأمل يتفق الثلاثة، ثلاثتهم يرون الأمل فى الغد والمستقبل، وإن كان لكل منهم أسبابه، «الجدة إكرام» ترى «السيسى» عنوان هذا الأمل، بعمله وجهده وإخلاصه، فيما يعتبره «الابن أحمد» مساراً طبيعياً للمصريين حتى فى أحلك ظروفهم، فلم يعتادوا الياس، والأمر مرده هنا هو إرادة المصريين أنفسهم، وليس شخص الرئيس مهما كان مميزاً، فيما يعتقد «الحفيد محمد» أن الأمل فى الشباب، فقط الشباب، بأيديهم ستتغير مصر، ودليله على هذا السنوات الأربع الماضية، التى تبدّلت فيها الحياة فى مصر بسبب الشباب، الثلاثة أجمعوا أيضاً أن «السيسى» هو خيار المرحلة، رغم إيمان «الابن أحمد» أن أزمة مصر هى عدم وجود رؤية لدى أىٍّ من الرؤساء الذين تعاقبوا عليها، توقف الثلاثة، الجدة والابن والحفيد، لحظات لمجرد ترشيح اسم يخلف «السيسى»، وهو ما اعتبره الشاب ترجيحاً لرأيه عن الاب والجدة:
«مش قلت لكم الأمل فى الشباب، والرئيس القادم هيطلع من وسطنا».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.