فى العشرين من مارس الماضى، مرت الذكرى الثانية عشرة للغزو الأمريكى البريطانى للعراق دون ضجيج، وكأن شيئاً لم يكن، رغم تكشُّف العديد من الحقائق والوثائق التى تثبت أن العالم تعرّض للخديعة، والكذب، والتضليل، من رجالات الإدارة الأمريكية، والبريطانية على السواء، بقيادة جورج دبليو بوش، وتونى بلير. وقبيل هذه الذكرى بأيام قليلة أدلى الرئيس الأمريكى باراك أوباما، بتصريح فى غاية الخطورة، إذ قال حرفياً: «إن تنظيم داعش هو ثمرة مباشرة لتنظيم القاعدة فى العراق التى انبثقت من غزونا له، وبالتالى فالتنظيم مثال للتبعات غير المقصودة للحرب»!! لقد جاء تصريح أوباما ليؤكد حقيقة يعرفها القاصى والدانى، لكنه أراد بذلك أن يُحمِّل جورج بوش «الابن» مسئولية «الغلطة الأمريكية» التى أنجبت طفلاً سفاحاً هو تنظيم «داعش»، وكأن أوباما يريد بذلك أن يعلن عن براءته من أى دور فى صناعة هذا التنظيم الذى يعرف الجميع أن الإدارة الأمريكية جنباً إلى جنب مع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والتركية والقطرية مسئولة مسئولية مباشرة عن ولادته ودعمه. إن أحداً فى واشنطن لا يستطيع الآن أن يجد مبرراً مقبولاً وصحيحاً ساقته الإدارة الأمريكية فى عام 2003 لتبرير غزوها الإجرامى للعراق، كما أن أياً من الإعلاميين والكتّاب الذين صدعوا رؤوسنا عن الغزو ومبرراته لا يستطيع أن يمتلك الجرأة حتى لإعادة قراءة ما كتبه فى هذا الوقت من ادعاءات وأكاذيب ما زالت الأمة تدفع ثمنها من دم أبنائها وثروات شعوبها وخرائط تمضى نحو التقسيم لحساب أعدائها. لقد أقر «جون برينان»، مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية (سى آى إيه) مؤخراً بكذب الادعاءات التى ساقتها إدارة بوش حول وجود علاقة بين حكم الرئيس صدام حسين وتنظيم القاعدة فى إطار التخطيط لهجمات 11 سبتمبر 2001. وأكد «برينان»، فى رسالة تم الكشف عنها مؤخراً، بعث بها إلى السيناتور الديمقراطى «كارل ليفن» حول مدى صحة المعلومات التى تحدثت عن وجود دور لنظام صدام حسين مع تنظيم القاعدة فى هذه الأحداث أنه «كانت لدى العملاء الأمريكيين شكوك كبيرة فى أحد الأسباب التى ساقتها إدارة بوش كمبرر لاجتياح العراق». وقال فى إطار رده «إن حديث ديك تشينى، نائب الرئيس الأمريكى السابق، حول وجود معلومات تفيد بأن الإرهابى محمد عطا الذى قاد هجمات الحادى عشر من سبتمبر قد التقى جاسوساً يعمل لصالح صدام حسين فى براغ قبل هذه الهجمات، لم يحدث من الأساس». وقال مدير الاستخبارات الأمريكية: «إن عملاء الجهاز المنتشرين على الأرض أعربوا فى هذا الوقت عن قلقهم الكبير حيال تصريحات تشينى، ولم يثبتوا البتة وجود عطا فى براغ فى هذا الوقت». وبعد الكشف عن هذه الأكذوبة طلب السيناتور «ليفن» من ال«سى آى إيه» رفع السرية عن هذه الوثيقة لإظهار الخداع الذى مارسته إدارة بوش على الأمريكيين قبل احتلال العراق، مؤكداً أن اجتماع براغ المزعوم كان فى صلب حملة الإدارة الهادفة إلى إعطاء انطباع للرأى العام بأن الحكومة العراقية تحالفت مع تنظيم القاعدة الإرهابى وقتها للقيام بهجمات الحادى عشر من سبتمبر 2001 ضد الولاياتالمتحدة. كما أن باحثاً أمريكياً متخصصاً فى الوثائق الأمريكية التى رُفعت عنها السرية مؤخراً، كشف أن المعلومات التى خلصت إليها وكالة الأمن القومى الأمريكية، قبل 13 عاماً، والتى تم استخدامها لتبرير غزو العراق، كانت تفتقر إلى معلومات محددة حول العديد من الجوانب الرئيسية بالبرنامج العراقى لأسلحة الدمار الشامل. وقد نشر الباحث الأمريكى «جون جرينولد» على موقعه الخاص على الإنترنت وثيقة حصل عليها تدين الرئيس السابق جورج بوش الابن ووزير خارجيته كولن باول، حيث أشارت إلى قيامهما ب«تسويق الحرب على العراق للجمهور الأمريكى، مع علمهما بعدم وجود معلومات موثقة لديهما تثبت أن العراق يخفى أسلحة نووية أو كيماوية أو بيولوجية، أو أن العراق يشكل فعلياً تهديداً فورياً وخطيراً للأمن القومى الأمريكى كما أشيع». ووفقاً للوثيقة المنشورة فإن «ما ذكره كبار المسئولين فى إدارة بوش خلال حملتهم لبيع الحرب للجمهور الأمريكى يحوى مبالغة كبيرة بشأن التهديد العراقى»!! لقد عملت واشنطن وإعلامها الكاذب فى هذا الوقت على الترويج للكثير من الادعاءات غير الصحيحة التى ساقتها كمبرر للغزو الأمريكى للعراق، وأبرز مثال على ذلك هو خطاب وزير الخارجية الأسبق «كولن باول» أمام مجلس الأمن الدولى فى فبراير 2003، ثم ندمه على هذا الخطاب بعد عشر سنوات مضت على الغزو. فى هذا الوقت وقف كولن باول أمام مجلس الأمن ليسوق رواية كاذبة ومعلومات زائفة حول جدية امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل فى إطار السعى لشن الحرب على العراق. لقد قدم «باول» أمام مجلس الأمن تقريراً معززاً بالصور المجسمة للشاحنات التى قال إنها تحمل معامل صغيرة لإنتاج الأسلحة الكيماوية وأماكن وجودها فى العراق، وزعم أن الصور التى عرضها مؤكدة وصحيحة، وأن السلطات العراقية تعمل على تفادى رصدها من قبَل الأقمار الصناعية وفرق التفتيش بحركتها المتواصلة على مدار الساعة فى بغداد والمناطق المحيطة بها للتمويه والإخفاء على حد زعمه. وبعد الغزو الأمريكى البريطانى لم يتم العثور على هذه الشاحنات ولا على الأسلحة النووية أو الكيماوية، غير أن واشنطن ظلت تكابر وتكذب، وتقول إنها حتماً ستصل إلى الأدلة القاطعة واليقينية. غير أنه، وبعد مرور عشر سنوات على الغزو، عاد كولن باول ليعترف بأنه شارك فى الكذب والتضليل عندما قال إن ما عرضه من اتهامات ومعلومات عن شاحنات كانت تحمل أسلحة محظورة خلال اجتماع مجلس الأمن قبيل عشر سنوات كان مبالغاً فيه وغير صحيح، وإنه نادم على تلك الرواية التى راح يتهم إدارة بوش بتسويقها فى إطار استحضارها للحرب ضد العراق. إن ما ذكره كولن باول، وندمه على مشاركته فى حرب التضليل للرأى العام عبر الادعاءات الكاذبة ليس دليلاً على البراءة أو عدم القدرة على التوصل إلى المعلومة الصحيحة، ذلك أن كافة الحقائق التى بدأ يكشف النقاب عنها أكدت أن المخابرات الأمريكية حذرت وأبلغت البيت الأبيض ثلاث مرات على الأقل ألا يستخدم المعلومات المتعلقة بالعراق والتى تزعم امتلاكه أسلحة دمار شامل لعدم صحتها فى هذا الوقت. كان الكل من أركان الإدارة الأمريكية يعلم عن ثقة ويقين أن العراق لم يكن يمتلك هذه الأسلحة، غير أن الحرب كانت مرتبطة بأهداف دينية وسياسية أكبر من هذه الادعاءات والأكاذيب. كانت واشنطن تسعى إلى تقسيم العراق فى إطار إعادة رسم خارطة المنطقة، وكان لدى بوش «الابن» هوس دينى بأن إسقاط العراق سيفتح الطريق أمام عودة المسيح إلى الأرض، وكان حلف «المحافظون الجدد» يروّج لهذه الادعاءات ويقود بنفسه الحرب الإعلامية وعمليات التسويق التى عمت أرجاء الأرض جميعها. إن الأمر المثير للدهشة والاهتمام أنه، وبرغم إقرار كافة أركان الإدارة الأمريكية فى عهد الرئيس السابق جورج بوش بكذب الادعاءات التى ساقتها حول امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل فى عهد الرئيس صدام حسين، فإن بوش ظل يردد أن غزو العراق مع ذلك كان ضرورياً لانتصار الديمقراطية وتخليص العراقيين من نظام مستبد ومصدر تهديد للأمن القومى الأمريكى والسلام فى المنطقة برمتها!! إن الحقائق تُكذّب كافة الادعاءات التى ساقها بوش وإدارته، فلا الديمقراطية تحققت، ولا الديكتاتورية لم يصبح لها مكان، ولا العراق أصبح نموذجاً يُحتذى كما كان بوش يدعى دوماً فى خطاباته وأحاديثه. لقد أصبح العراق بلداً مقسماً، وواحداً من أكثر البلاد التى ينتشر فيها الفساد كما قال تقرير منظمة الشفافية الدولية، كما أنه أصبح وكراً للتنظيمات الإرهابية وللحروب الطائفية والعرقية ومصدراً للعنف والإرهاب ومهدداً لكافة دول الجوار. وإذا كان أوباما يعترف الآن بأن «داعش» ثمرة من ثمار الغزو الأمريكى للعراق فيبقى السؤال الأهم: متى تتم محاكمة جورج بوش وإدارته الذين كانوا هم صناع هذا الإرهاب الذى استشرى فى المنطقة وأصبح يهدد العالم بأسره؟ وإذا كانت أمريكا جادة فى غسل العار الذى لحق بها بسبب هذا الغزو الذى تسبب فى كلفة كبيرة لم تسلم أمريكا أيضاً منها، فلا بد من رد الاعتبار إلى الشهيد صدام حسين الذى حذر مبكراً من حقيقة الأهداف الأمريكية، ولا بد أيضاً أن نرى بوش وعصابة المحافظين الجدد فى قفص الاتهام ليحاكموا بتهمة الخيانة العظمى ودعم الإرهاب. لا يكفى أبداً سيل الاعتذارات التى يسوقها رجال بوش بين الحين والآخر لتبرير فعلتهم الإجرامية، فالقضية أكبر وأعمق من كلمات بالية تتردد، أو اعتذارات واهية تُطلق بين الحين والآخر. إن الاعتراف المتأخر، والاعتذار عن التضليل المعتمد، لن يعيد روح صدام حسين ولا أرواح مئات الآلاف من الشهداء الذين سقطوا، ولن يهدئ من روع الملايين الذين شُردوا قسراً، ولن يُصلح من شأن العراق الذى تعرّض للتقسيم والحروب والفتن.