بمنطقة الأنفوشي في حي الجمرك بالإسكندرية تستطيع أن تميِّز "حلقة السمك" حيث تقودك رائحة ذكية للأسماك الطازجة منبعثة من المكان الذي يعود تاريخ تشييده إلى 1834. على بعد خطوات من مبنى حي الجمرك، تشير الساعة إلى الرابعة فجرًا، الإسكندرية ما زالت نائمة، لكن هنا بدأ الصيادون في غناء الأناشيد الحماسية، "هيلا هوب وهيلا"، عندما تقترب من المبنى القديم القصير المكون من طابق واحد، وتعبر من البوابة تجد نفسك في ساحة واسعة مستطيلة الشكل يتفرع عنها 4 مخارج، والمكان يعج بالصيادين والمعَلمين والتجار، ثم يبدأ المزاد. تصل الأسماك باكرًا مع بزوغ الفجر، على شاحنات تحملها من الميناء الشرقي المجاور للحلقة، حيث تعلو الأصوات في الصباح داخل "الحلقة"، وتختلط مع صوت طرقات الألواح الخشبية التي يفرِّغ بها الصيادون حمولتهم من الأسماك التي أتوا بها من البحر بعد مدة صيد قد تتراوح من 15 إلى 20 يومًا. يخرج "المعلم" ليعلن عن بدء المزاد اليومي، يخيِّم الصمت على الحلقة، تعلو الأصوات بمبالغ مالية من هنا وهناك، حيث يتكدس مندوبو الفنادق والمطاعم الكبرى وتجار السمك، وتعلو الأصوات بأرقام المبالغ المالية حتى يرسو المزاد على شخص هو الفائز بحمولة السمك وينهي الصياد المزاد "ألا أونا.. ألا دوي.. ألا تريه"، ليبدأ مزاد جديد مع أشخاص جدد وحمولة سمك مختلفة. الصياد علاء الدين محمود، يعمل بالحلقة منذ 25 عامًا، يشرح أن المزايدات على شراء الأسماك الطازجة، تنتهي تقريبًا عند السابعة صباحًا، وما يتم بيعه هو حصيلة ما جمعه الصيادون من مختلف السواحل السكندرية أو التي تأتي من الأقاليم المصرية، من بحيرة البرلس وكفرالشيخ ومنطقة المعدية، وغالبًا يتم اصطيادها ليلًا. تعد حلقة السمك بمحافظة الإسكندرية أقدم وأشهر سوق لتجارة الأسماك بالمدينة، حيث تنتشر بها جميع أنواع الأسماك ولا تفارقها رائحة البحر ويكثر بها البائعون والصيادون الذين يتخذون الصيد، وتجارة الأسماك كمصدر رزق ومعيشة لهم. في الخارج بالقرب من حلقة السمك، في اتجاه قلعة قايتباي، هناك نجارون يتابعون عملهم في صمت، حيث يصلح بعضهم المراكب في حين يعكف آخرون على صنع "فلوكات" لتبحر وتأتي بالخير والرزق. وتمتاز هذه المنطقة بصناعة السفن وقوارب الصيد وكذلك صناعة اليخوت، وذلك في جزء من شاطئ رأس التين العام مخصص للورش التي تعمل المحافظة على تجميلها. تعتبر "الحلقة" معلمًا أثريًا معروفًا لدى سكان الإسكندرية، فهي سوق سمك قائم يمتد تاريخه حتى 181 عامًا مضت، وتعرض المبنى على مر السنوات لعوامل التعرية التى أفقدته جزءًا من ملامحه الأصلية التي امتاز بها تصميمه الأولى. "علاء" الذي يرتدي ملابس خاصة بالصيد أثناء وقوفه في الحلقة، يشير إلى الكم الهائل من الأسماك المكومة على الألواح الخشبية، قائلًا: "هنا السمك مش بيتباع بالكيلو جرام وإنما بنبيعه بالشروة". ويعتبر الصيادون مقر "حلقة السمك"، مكانًا للبورصة، ولكن ليس للمضاربة بالأسهم، إنما لتجارة الأسماك في اقتصاد بحري بحت، حيث إن جميع المشاركين من صيادين وتجار ورثوا المهنة عن أجدادهم. الحياة في منطقة بحري كما يطلق عليها أهالي الإسكندرية، تتسم بالعمل الدؤوب، إلا أن الأحوال المناخية كثيرًا ما تعكِّر صفو حياة الصيادين، حيث شهدت البلاد مؤخرًا بعض التقلبات المناخية التي ضربت الوجه البحري للبلاد بشكل عام والإسكندرية بشكل خاص، وهذا أعاق عمليات الصيد. تجار الأسماك والصيادون يطلقون على هذه التقلبات اسم "النوة"، وتمنع على إثرها أعمال الصيد، فتتوقف الحياة في بحري بشكل شبه كامل، فلا مصدر رزق للصيادين، وتتوقف حركة البيع والشراء للتجار. يقول أحمد الدلال، أحد الصيادين الذي يعمل بالمهنة منذ أكثر من 50 عامًا، إنه توقف عن العمل لمدة خمسة عشر يومًا متواصلة، وهناك من تعطل لشهر "عشان مراكبهم صغيرة"، وبالرغم من حرص الصيادين على تفادي الخروج في أجواء الطقس السيئة، إلا أن بعض المغامرين غرقت مراكبهم في بعض المناطق.