المثقف الذي لا يشتبك مع عصره وقضاياه يُفوت على نفسه فرصة تاريخية إلى الأبد،تلك هي وجهة نظر الفيلسوف الفرنسي سارتر حول دور المثقف في مجتمعه وعصره، وقد عرض لها في كتابه الأدب الملتزم، الذي خصصه لنقد سلوك المثقفين، الذين أداروا ظهورهم للتاريخ، ولم يشتبكوا مع مشكلات الواقع والعصر الذي يعيشون فيه. ولعل سارتر وهو ينقد هذا النموذج، ويحاول هدمه، كان منطلقا من رغبة في استدعاء وتكريس حضور نموذج المثقف النبي، الذي دعى إليه الكاتب الفرنسي لوسيانبيندا في كتابه خيانة المثقفين؛ وهو المثقف صاحب الرسالة،الذي يتكلم عن الحق والعدل دون اعتبار لمصلحته الذاتية، ويمارس النقد الفكري والاجتماعي بشجاعة،ولديه استعداداً للتضحية في سبيل تعبيره عن آرائه و تأديته لدوره النقدي التنويري في مجتمعه. ولو انتقلنا من الأفق الغربي، نحو فضائنا اللغوي والتراثي العربي، لنبحث عن معنى الثقافة ودور المثقف، سنجد أن إن مصدر كلمة ثقافة في اللغة العربية قد جاء من ثقف العود أو الرمح، أي هذبه وأصلح من تعوجاته، وما أن ظهرت الدعوة الإسلامية – فيما يذكر الراحل الدكتور زكي نجيب محمود - حتى قفز معنى كلمة الثقافة قفزة هائلة نقلتها من ميدان الرماح والقتال إلى فطنة العقل وذكائه، وقد جاءت تلك النقلة على يد أديب العربية الكبير الجاحظ، حيث لم تعد كلمة الثقافة تعني تسوية العود الذي يركب عليه سنان الرماح ليصلح للقتال، بل تسوية الفكر ليصبح بفطنته وذكائه قادراً على حل مشكلات الحياة. إذن فإن المثقف الحقيقي، ليس هو من قرأ الكتب وجمع المعلومات، وحصل على أعلى الدرجات العلمية، ولكن من يعيش قضايا مجتمعه وعصره بفهم عميق وقدرة على النقد والتحليل، ويتحلى بشجاعة القول، والعمل على تحسين شروط الحاضر، ورسم ملامح مستقبل أفضل. وهذا يعني أن عمل المثقف وصفي تقريري، في تحليله وتشريحه لما هو كائن، ومعياريفي نقده لما هو كائن في ضوء ما ينبغي أن يكون، وفي سعيهلجعلماينبغيأنيكونهوالكائنبالفعل. وبالتاليلا يمكن أن يقتصر عمل المثقف - كما أراد له البعض - على الوصف والتحليل فقط، من موقعه البحثي والأكاديمي، دون الاشتباك مع الواقع. قد يرى البعض أن تلك مثاليةفكرية، وأن ذلك المثقف سوف ينتهي به الحال لان يصبح كالصارخفيالبريةيوحناالمعمدان وحيدا ومنبوذا،لا يستمع إليه أحد، لأنما هو كائن في الواقع بكل مظاهر التردي والفساد فيه، قد قيدته جماعات المصالح بأغلالفولاذية، وأن ليس في الإمكان أفضل مما هو كائن. عندئذقد يقبل المثقف الذي أرهقته المثل والأحلام المُجهضة، بهذا التوصيف باسمالواقعيةالسياسية،وربما بدافع الانتهازية والرغبة في جني مكاسب شخصية،إلاأنهفيحقيقةالأمر،قدتراجععندورهكمفكر ومثقف وخاندوره، وارتدىزيالسياسي؛لأن مجال عمل وهدف المثقف، هو الدفاع عما ينبغي أن يكون، ورسم ملامحه انطلاقا من نقد وتحليل ما هو كائن، على العكس من مجال عمل وهدف السياسي، وهو الدفاع عن ما هو كائن، وتكريس حضوره. ولنا في الفيلسوف الألماني جوهان فشته ( 1762م – 1814م )، قدوة حسنة، فهو القائل: " إن الواقع ليس كل شيء ولكن الواجب و ما ينبغي أن يكون هو كل شيء "؛ وذلك لأنه شب في عصر كانت نفوس الألمان فيه تتأجج بالرغبة في الإطاحة بالحكم الاستبدادي، وكانت ألمانيا مقطعة الأوصال ومقسمة إلى عدة ولايات. وهنا ظهرت كتابات لمفكرين ألمان تنادي بأن التغيير الاجتماعي والسياسي لابد أن يتم ببطء ومن خلال السلطة الحاكمة، فنام الشعب الألماني في سبات عميق وأخذ ينتظر الهبات من الحاكم، ولكن فشته وقف من التيارات الفكرية والأحداث السياسية والاجتماعية موقفاً تميز به على مفكري عصره؛ فرفض الاستسلام والسلبية والانهزامية، ونقد خضوع الألمان للنظريات الميتافيزيقية التي لا تنتهي إلي نتائج عملية، وآمن بضرورة العمل على تحقيق مذهب ينتهي إلى الفعل ويعلي من شأن الحرية، ويحقق ما ينبغي أن يكون لحاضر ومستقبل ألمانيا، وهذا ما نجح فيه، ولذافقد عُد فشته باعثاً للروح الألمانية في العصر الحديث.