يقوم الحسد العام فى عصرنا بدور غير مرئى فى تحريك الصراع الاجتماعى والسياسى، فمَن هم فى خارج السلطة يحسدون مَن هم على رأسها، وكثير من الفقراء يحسدون الأغنياء، والأغنياء يحسدون بعضهم بعضاً، والمتأخرون دراسياً يحسدون المتفوقين، وكثير من النساء يحسدن بعضهن بعضاً، والمتخلفون عن الترقية يحسدون مَن سبقهم. وغالباً ما ينمو الحسد فى الوسط المهنى وبين زملاء العمل عندما تشتد المنافسة فيتفوق البعض ويفشل الآخرون. كل ذلك باستثناء الحالات التى درّبت نفسها على الإعجاب لا على الحسد، ونجحت فى إيجاد توازن عقلى يدفعها للمنافسة الشريفة. والحسد الذى أتحدث عنه هنا هو ذلك الشعور الحاقد المحمل بالغيرة وتمنِّى زوال نعمة الآخر، والذى ينتج عنه سلوك مؤذ أو صراع أو عنف لسانى أو مادى، ولا أقصد «عين الحسود» وما شابه. والحسد بذلك المعنى يُعد من أخسّ مظاهر الطبيعة البشرية وأعمق انفعالاتها وأكثرها شيوعاً، بدليل أنه ملاحَظ عند الأطفال، ولا بد أن يعالجه كل مربٍّ بالرقة والحنان والحذر، فأدنى بادرة من مظاهر إيثار طفل على حساب آخر يشعر بها هذا الطفل ويسخط عليها ويستاء منها، ومن ثم تجب مراعاة العدالة فى التوزيع.. عدالة مطلقة، صارمة، لا تتغير، سواء على المستوى المادى أو العاطفى، حتى يمكن معالجة «الحسد» والتخفيف من حدّته فى التكوين النفسى للطفل. ومن أسف فإن الأطفال ليسوا أكثر صراحة إلا بمقدار قليل جداً من الكبار من حيث التعبير عن «الحسد»: فالحسد منتشر وشائع بين الكبار شيوعه بين الأطفال! ويقوم الحسد بدور بارز وخارق للعادة بين النساء المحترمات فى العادة، وخذ مثلاً على ذلك: فإن تصادف أنك كنت فى المترو، ومرت فى دهليز العربة امرأة حسنة الهندام، راقب عندئذ عيون النساء الأخريات! سترى أن كل واحدة منهن -ربما باستثناء من هن أحسن منها هنداماً- سترمقها بنظرات العداء، وستناضل لاستنباط ملاحظة تحط من قدرها! ويمكن القول إن حب تناقل الفضائح والشائعات تعبير عن هذا «الحسد العام»، لدرجة أن أى قصة أو شائعة تقال ضد امرأة أخرى تلقى غالباً التصديق فى الحال ولو على أوهى أساس ممكن! ولا ينجو كبار المجرمين من التعرُّض للحسد الخفى من قبل العاجزين والجبناء وطائفة من غير الأسوياء نفسياً. فالحسد ليس مُلاحَظاً فقط بين الأطفال والنساء، بل بين الرجال. والفرق بين الحالات الثلاث أن الحسد معبّر عنه بصراحة أكبر بين الأطفال، والفرق بين النساء والرجال أن كل امرأة تنظر إلى سائر النساء كمنافسات من حيث هنّ نساء، أما الرجال فالقاعدة أن شعورهم هذا ليس موجهاً إلا إلى الرجال فى مهنتهم نفسها غالباً، ولذا فإن علماء الجرح والتعديل فى الحضارة الإسلامية لا يأخذون برأى الأقران فى بعضهم البعض، ومن التهور إطراء فنان أمام فنان آخر، أو سياسى لدى سياسى منافس له، أو عالم لدى عالم آخر، أو فيلسوف أمام فيلسوف، ففى أغلب الأحيان أن ذلك سيثير عاصفة من الغيرة على الأقل داخلياً، والغيرة شكل معين من أشكال الحسد وفق ما يقول الفيلسوف الإنجليزى «برتراند راسل Pertrand Russel» الذى ذكر مثلاً طريفاً على هذا اللون من الحسد وعلاقته بتصديق الشائعات حتى بين الفلاسفة والعلماء! فأشار إلى أنه توجد فى الرسائل المتبادلة بين «ليبنتس Leibniz» و«هويجنز Huyghens» عدة خطابات تفيض بالتحسر على إصابة «نيوتن Newton» بالجنون! فقد كتب كل منهما للآخر -حسب ما ذكره راسل- يقول: «أليس محزناً جداً أن عبقرية نيوتن التى لا تضارَع قد خيّمت عليها آفة فقدان العقل؟»، وراح هذان العالمان البارزان فى سلسلة من الرسائل يذرفان دموع التماسيح فى حبور واضح! والواقع أن الحدث الذى كانا يتحسران عليه ويندبانه فى رياء لم يكن له نصيب من الصحة، إذ كان مجرد شائعة ساعد على ظهورها شىء قليل من السلوك الطريف أو الغريب لنيوتن! إن الحسد مرتبط بالطبع ارتباطاً وثيقاً بالمنافسة؛ فالمرء إن كان يشتهى المجد العسكرى والسياسى قد يحسد نابليون، ولكن نابليون كان يحسد يوليوس قيصر، ويوليوس قيصر كان يحسد الإسكندر الأكبر، والإسكندر الأكبر -فيما يُظن- كان يحسد هرقل الذى لم يكن له وجود قط إلا فى الأساطير اليونانية! ربما لا يحسد المرء الطبيعى شخصاً آخر على شىء قدرى يستحيل الوصول إليه، ومن ثم لن يكون لديه دافع قوى لإصدار الشائعات السيئة حوله، ففى العصر الذى كان فيه السلم الاجتماعى ثابتاً، لم تكن الطبقات الدنيا تحسد الطبقات العليا ما دام التقسيم إلى أغنياء وفقراء شيئاً يعتقد الناس أنه قدَر إلهى، فالمتسولون فى ذلك العصر لا يحسدون أصحاب الملايين، مع أنهم بالطبع يحسدون المتسولين الآخرين الأنجح منهم فى التسول! لكن عدم ثبات الوضع الاجتماعى فى العصر الحديث والنظريات الديمقراطية والاشتراكية المنادية بالمساواة، فضلاً عن ارتفاع معدل الأشخاص الذين يبحثون عن مجد غير مؤهلين له، كل ذلك عمل على توسيع نطاق الحسد العام، وهذا شر كله لكنه شر لا بد من تحمله حتى يمكن الوصول إلى نظام اجتماعى أكثر عدالة، وحتى يمكن أن ترتقى النفس الإنسانية بعض الشىء!