رغم اختلاف المجتمعات؛ ثقافة ومعتقداً، ما زال الاحتفال الوجدانى على الأقل ببداية عام ميلادى جديد ملمحاً بارزاً، وما زلت أتذكر أيام الصبا فى الحى الشعبى، القللى، فى قلب القاهرة، والمتفرد بتوسطه «وسط البلد» وأحياء شبرا، ومنه خرجت المظاهرات التى قادها خطيب ثورة 19 «القمص سرجيوس»، ويقع فى دائرة تحرص الحكومات المختلفة على أن يحتل كرسيها البرلمانى، الأزبكية، أحد أعضائها فى تقليد يتناقل منذ الملكية وحكومات ثورة 52، فى تلك الأيام كنا نجتمع فى كنيسة الحى، ونستقبل نسمات العام الجديد ونحن فى حالة وجد يقترب من الصوفية، نخال أنفسنا مشاريع رهبان، قبل أن تتنازعنا مشاغل الحياة، ونقع فى حبائلها، نصارعها ونشتبك معها، ونتوزع فى دروبها. بين الخاص والعام تجرى فى نهر الحياة مياه كثيرة، ونشهد تحولات عاتية، لكن يبقى لليلة رأس السنة خصوصيتها، رغم أنها ليلة مثل باقى الليالى، لكن يبدو أننا نبحث عن محطات حياتية نتوقف فيها نلتقط أنفاسنا، ونتدبر أمرنا، ونستريح للحظة من النير الذى يثقل كاهلنا ويشدنا إلى «ساقية» تدور بغير توقف، وحتى لا نصاب بدوار اصطنعنا غمامة نخال معها الدوران سيراً فى مسار مستقيم، ويصح فينا قول «اللى نبات فيه نصبح فيه». بعيداً عن الصخب الذى يصاحب تلك الليلة، ونخاله فى الذهنية العامة من معالمها، تبقى مناسبة مراجعة وتقييم وتقويم وانطلاق، يتصدرها عند الشخص والكيان «التخطيط» ودوره، ظنى أننا بحاجة إلى إعادة الاعتبار فيها لأساسات البناء، والتى نجملها فى كلمة «التنوير» والتى تعنى، بعيداً عن متاهات النخب، إضاءة المناطق المعتمة فى العقل الجمعى، إذ لا يمكن أن تترجم الخطط، مهما كانت مبدعة ورائعة وكانت تتلامس مع احتياجات الشارع والناس، إلى برامج على الأرض، دون تواتفر قناعة لدى المستهدفين بضرورتها وأهميتها، وهى قناعة تزيحها وتحتل مكانها كثير من المعتقدات المتراجعة، المقاومة للعمل فى تعلق بالغيبيات، والمقدر والمكتوب، ومعها تتراجع قيم العمل والإنتاج وقيمة الفرد، والتكامل والعمل الجماعى. وللتنوير آلياته وأدواته ومسالكه، يأتى على رأسها مثلث التعليم والثقافة والإعلام، وعودة المؤسسات الدينية إلى موقعها الصحيح حيث الرعاية والتعليم، عبر الموعظة الحسنة، وأمانة الطرح، بغير مغازلة لتحالفات المصالح، أو التزاوج مع السياسة وتحيزاتها، ليسترد الدين توصيفه الصحيح دين ودنيا، وليس ديناً ودولة. وبالتوازى يعود للقانون سيادته، بحسب صورته التقليدية التى تحملها واجهات المحاكم، امرأة فتية ممشوقة القوام بغير إعوجاج تمد يديها على استقامتهما تحملان كفتى ميزان يتوسطهما سيف يفرق بين العدل والظلم، وتقف على مسافة واحدة من كافة المتقاضين، معصوبة العينين، تتبنى قواعد قانونية عامة ومجردة وملزمة. والتنوير مسئولية مجتمعية وسياسية تتحملها كل القوى الوطنية؛ الأحزاب والحكومة والمعارضة ومنظمات المجتمع المدنى ورجال الأعمال، وكل من يملك أداة تواصل مع الناس على مختلف المستويات بدءاً من الأسرة إلى الفضائيات مروراً بالمطبوعة كتاباً وجريدة ومجلة وندوة وفيلماً ومسرحية وقصيدة ولوحة. دعونا نحول 2015 إلى عام تنوير، نعيد فيه للقراءة التقليدية والإلكترونية موقعها المتقدم، باتفاق وزراء الثقافة والتنمية المحلية والتعليم والمالية مع محافظى المحافظات، بحرى وقبلى، والقاهرة والإسكندرية، وجمعيات رجال الأعمال، والجمعيات الثقافية، والمؤسسات الصحفية وكليات الفنون الجميلة والتطبيقية والمبدعين من الشباب، على خلق سلسلة من المكتبات فى المتنزهات العامة، ومراكز الشباب المهجورة والمختطفة، فى القرية والنجع والأحياء، توفر للشباب مصادر المعرفة البنائية، وتحسب تكلفتها كأعباء تخصم من الوعاء الضريبى للمتكفل بها، وفق نماذج تصميمية جاذبة فنية وعملية. سنة التنوير كفيلة بمواجهة الإرهاب، فكلاهما يبدأ فكراً. ولا نملك ترف التعامل معه بتهاون. كل سنة ومصر منورة وبخير.