المصريون انتخبوا عبدالفتاح السيسى لأنهم وجدوا فى اختياره أملاً، فهم لم ينتخبوا داعية أو رجل دين، بل انتخبوا وطنياً مصرياً عبّر بصدق عن التطلع للحفاظ على الدولة المصرية، ومنحهم فى سياق تصدُّره للمشهد الغاية فى الغد الأفضل، ولذلك استدعى لديهم كوامن الخير والحرص على الدولة الوطنية، فى حين استدعوا هم تجاهه إطارات التكريم والتقدير والمحبة، لكنهم مثل أى شعب ينظر إلى غده مقروناً بالقدرة على تحقيق الإنجازات، لأن الفضيلة لا تبنى أوطاناً بمفردها. واليوم، وبعد شهور من حكم عبدالفتاح السيسى بدت كأنها جولة مع الزمن والماضى أيضاً، فهناك قوى ما بدت فى أفق التجربة لم تكن سوى تعبير عن تحديات أعتقد أن ظهورها المتتابع فى الأشهر الأولى لحكم السيسى لم يكن يخطر على بال أكثر المتشائمين. السيسى أكد دائماً ومن ذلك حديثه لشباب الإعلاميين «إنه مش بتاع حد»، فى حين أن هذا «الحد» وجد مساحة للحركة فى فناء السلطة عند زحام لحظة الاختيار «الانتخاب»، وظن أن المساحة ستتسع وفق مقتضيات الشكر والعرفان والخجل والمجاملة، فى حين أن الواقع بدا وكأنه يتشكل بعكس هذه المساحة، ومن ثم بدأت حرب غير معلنة على الرئاسة نفسها مبطنة فى رسائل عن الجميع وللجميع لعلها تصيب هدفاً هنا أو هناك أو تجد صدى أو تراجعاً عن مسار جديد لصناعة صورة مختلفة عن مصر، سواء فى طبقات الحكم أو دوائر صناعة القرار، وكأن الاستعانة بالمصريين للمصريين أغضبت هؤلاء الذين أرادوا الرئيس لأنفسهم رغم تأكيده «مش هجامل أى حد على حساب البلد»..!! رجال أعمال الحزب الوطنى وفلوله ظنوا أن مساحات التردد فى ذهن السلطة وأيضاً حسابات التوافق والتشارك ستدفع الأمور إلى صالحهم بوصفهم الأقرب والأنسب لقيادة اللحظة، وعندما أُغلقت أفق الانتهازية وجدوا أن أولى مراحل المواجهة هى ضرب الاتجاه البادى لدى السلطة حتى يتمكنوا من إجهاضه وتصفية الحساب مع ما يتشكل فى الأفق وكذلك إزاحة كل ما هو آت لأنه ليس فى صالحهم، يتفق فى هذا من خرج من السجن وتحدث بالكفر حتى مهرب الفياجرا، فإن كان الأول صامتاً وصار يتكلم فالثانى يُظهر عكس ما يبطن، فالباطن مصلحة و«ثأرية» وطمع فى المقبل، وبين هذا وذاك قوة تتشكل من الماضى، من شبكات مصالح وجهات ومؤسسات بينها الرسمى وغير الرسمى، منها المقاومة بجلسات فنادق الخمس نجوم، ومنها المقاومة بمنح البيانات المتضاربة والأفعال المسيئة، ومنها المقاومة ب«الجرى فى المحل»، ومنها المقاومة ب«الكسل والغباء والجهل وغياب الخطة»، جميعهم اتفقوا، بلا ترتيب أو ببعض الترتيب، لينالوا من مسيرة قد تخالف أغراضهم، فقطارها عرباته مختلفة وأحكامه جديدة ويسعى ليجرى دون النظر إلى «الخلف» فى حين أن ميراث «الخلف» ما زال أمام القطار، فإما الإزاحة للتقدم إلى الأمام أو التعثر أو التوقف، والتعثر والتوقف هنا يستويان، فهما بمثابة انتحار مع اختلاف المدة الزمنية، فالتسكين والتزام المكان نهاية وكذلك التعثر والخروج عن القضبان سقوط مروّع للأحلام التى بنتها الجماهير، وهى أيضاً إسدال للستار..!! المواجهة لم تعد سرية، فقد خرجت للعلن، ورايتها رُفعت خاصة من دولة الفساد التى اشتاقت لمن ينفخ فيها ثانية من روح الماضى، فحتى استقرارها تحت سطح الانشغالات والتحديات الأمنية لم يعد يكفيها، فالفرصة عظيمة للانقضاض على «المقبل» سواء كان برلماناً أو مؤسسة حكم موازية حسبما يأمر دستورنا، ولهذا ولذاك فالانتباه واجب، والحذر فضيلة، والإنجاز هو السبيل للحفاظ على ظهير شعبى فى زمن لا ظهير سواه، وهذا الظهير يلزمه كما قال الباحث الأمريكى «توماس كرونين»: «نريد أن يخوض رؤساؤنا المعارك ويناضلوا من أجل شعوبهم وليس فقط من أجل هؤلاء الذين انتخبوهم، كما نتمنى أن يكون لدى رؤسائنا إقدام فكرى لاتخاذ القرارات الصائبة».