من الطرائف ذات المغزى والمعنى: أن وزير ثقافة فرنسا فجَّر مشكلة ما يسمى الغزو الثقافى فى مؤتمر عُقد أوائل الثمانينات بالمكسيك تحت عنوان «السياسة الثقافية». فرنسا، بقدرها وإسهاماتها الضخمة وتأثيرها الهائل فى الثقافة العالمية، وصاحبة الفعل والتغيير فى ثقافات محلية كثيرة، تشكو من تأثير الهيمنة الثقافية ووسائل الاتصال الجماهيرى والإعلام الحديثة، التى يأتى معظمها من مصادر غربية أوروبية وخاصة أمريكية بحكم قدراتها المادية وسيطرتها على الإنتاج السينمائى والتليفزيونى. ولنا أن نتصور أى فزع يستولى على دول وشعوب أخرى من مجتمعات العالم المتخلف التى لا تنتج علماً واختراعات وقيماً وثقافة مثل فرنسا التى تبدو شكواها ترفاً بالنسبة لنا، مشكلتها أساساً فى هيمنة تدنى ترتيب الثقافة الفرنسية فى التأثير العالمى قبل أن تكون مشكلتها هى الغزو الثقافى. ومنذ سنوات، كان حديث الغزو الثقافى والتبعية الثقافية فى العالم كله، خاصة فى بلاد العرب، أكثر مما هو دائر الآن. يبدو فى الأمر اقتناع وتسليم بأن هذا أمر يسير بمقادير وحتمية لا فكاك منها إلا قليلاً؛ فالاختراعات والتكنولوجيا الجديدة المستخدمة على مستوى العالم خلخلت فى الثقافات المحلية والقديمة وخلقت ثقافة وقيماً مشتركة جديدة. شكا صديقى المتدين أن ابنته (17 عاماً)، المتدينة أيضاً، تستخدم التليفون المحمول فى الاتصال بصديقاتها وأصدقائها فى الثانية عشرة منتصف الليل وأنه عنفها، ورغم وعدها إياه بالامتناع فإنها عادت. قلت له: هل المشكلة فى الاتصال أم فى الثانية عشرة منتصف الليل؟ ورغم أنه بدأ الشكوى من الثانية عشرة فإنه انتهى إلى قلقه وخوفه عموماً هو وزوجته ممن يتم الاتصال بهم. ما يلزمنا معرفته: أن الآلة نفسها تأتى بقيمها وليس لمجرد الزينة والوجاهة الاجتماعية، ورغم أنها يمكن أن تبدأ كذلك فإنها تنتهى حتماً لما وجدت من أجله وتأدية وظيفتها الرئيسية: الاتصال بالآخرين وإقامة العلاقة معهم. ويتحدد شكل العلاقة بإرادة الطرفين الحرة وحدهما، عبثية أو جادة، عاطفية أو عملية، علنية أو سرية.. وبذا يؤكد هذا المثال (الآلة) البسيط الحرية الفردية والخصوصية تماماً، على عكس سنوات سابقة حين كان أفراد الأسرة شركاء فى التليفون الأرضى وكانت قواعد استخدامه تلزم الجميع بمراقبة حسن الاستخدام وأخلاقياته ومعرفة المتصلين منعاً للخناق والمشاكل. الآن، تم الاستغناء عن تلك الشركة وتأثيرها على الدماغ والمزاج! وتزايد قدر من الحرية بالانعتاق من أسر جماعة ما، ثم تطور هذا المحمول الخفيف فى اليد والجيب وصار بإمكانه إنتاج صور فورية وتوثيق الوقائع فى الحال كقرائن تؤدى إلى إظهار الحقائق أو جزء منها أو تزييفها. وقد لعبت الصور الناتجة من هذا النشاط الاجتماعى ثورة فى العلاقات والقيم بين الأفراد وبعضهم، وبينهم وبين السلطة، وغيَّرت الثقافة وغزتها. تغييرات واضحة فى المجتمع ذاته، وعلى هذا فلا يمكن الفكاك من أسر الهيمنة التى تنتجها وسائل الاتصال الحديثة، وصارت الصورة التى تكشف العسف والظلم فى أى مكان بالعالم تدعو شعوب الأرض كلها للتضامن والاحتجاج ضد الظلم ودفع حكوماتها لاتخاذ مواقف عادلة أكثر. إن هذه الصلة الجديدة بين شعوب الأرض أعطت الإنسانية أبعاداً لم تكُن، أبعاداً أكثر وأعمق مما أعطته أديان تنكر حقوق غير المؤمنين بها، صلة خلقت حقوقاً للنساء والأقليات والمعارضين والبيئة، وصار الضغط من أجل مجتمع عالمى يحقق حقوقاً أساسية ومساواة وحريات له نتائج جلية رغم المقاومة. لم يعد سهلاً أن ترفض حكومة ما هذه الثقافة أو تعمل ضدها وضد مواطنيها وتكون بمأمن من اللوم والعقاب وصارت الدول تذهب بوفودها لتبرئة ساحاتها من الخرق. القيم والثقافة العالمية الجديدة نتيجة التطور التقنى والإنسانى فتحت أبواب البلدان وبيوت الشعوب للنظر والمتابعة فيما يتم داخلها. لا مفرّ!