قبل أيام أعلنت وزارة النقل، استعداداتها لطرح مشروع «التاكسى النهرى» الجديد، بتكلفة جديدة وميزانية أكبر تتناسب مع ذلك المشروع، فى حين تجاهلت الأوتوبيس النهرى الذى يعانى الإهمال لسنوات طويلة حتى بات الوصول إلى محطاته الرسمية أمراً فى غاية الصعوبة، تتفحص كورنيش النيل بمنطقة ماسبيرو باحثاً عن تلك المحطة الرئيسية للأوتوبيس النهرى، ليكشف لك شباك التذاكر الكائن بمدخل المحطة عن مكانها، جنيه واحد فقط يسمح لك بالدخول وركوب أقدم أوتوبيس نهرى بالمكان، إذ كانت بداياته فى أوائل الستينات، بحسب ما ذكره القائمون عليه. فوق مقاعد متهالكة تبدأ لحظات الانتظار بين الركاب لحين عودة الأوتوبيس من رحلته السابقة، إلى أن تدق الساعة الرابعة ويبدأ الأوتوبيس فى استقبال عدد جديد من الركاب لنقلهم إلى الجهة المقابلة وبالتحديد محطة «الجامعة». مقاعد بلاستيكية متراصة على الجانبين، الغالبية يختارون أماكنهم إلى جانب نوافذ خالية من الزجاج. بعض الذين يقصدون ركوب الأوتوبيس يقصدونه كوسيلة تنقل، والبعض الآخر يعتبره نزهة نيلية.. أحمد السيد طالب بكلية التربية جامعة بنها، ذو الثلاثة والعشرين عاماً بعد أن التقط عدداً من الصور التذكارية لأصدقائه، تحدث إلينا مبتسماً أنه قلما يركب الأوتوبيس النهرى، ولا يستخدمه كوسيلة نقل ولكن كوسيلة للتنزه والترفية، ويضيف أن ما يضايقه هو صوت الموتور المزعج. لا تخطئ عيناك الصدأ الذى يملأ جوانب الأوتوبيس، ورائحة البنزين المنتشرة فى المكان، والقمامة متكاثرة تحت المقاعد، وبقع الزيت تمر فى النيل من جانبنا دون أن نعرف مصدرها. فى زاوية من المركب يجلس عم محمد الرجل الخمسينى، مرتدياً بذلة زرقاء بجواره «عدته»، سخان وأكواب وزجاجات المياه الغازية، تحدث معنا عن الأوتوبيس قائلاً «أنا شغال فيه من سنة 88 والأوتوبيس ده عامل زى الجمل عمره ما اشتكى، وأنا وظيفتى إنى أربط الأوتوبيس فى المرسى لما يوصل المحطة». عندما يأتى السائق ويجلس على مقعده الأمامى، بملابسه الزرقاء كبقية عمال المحطة، يدير الموتور، ليملأ صوته جنبات المكان، وتتصاعد الأدخنة من مقدمة الأوتوبيس لتملأه، اقتربنا منه فقال عاقداً حاجبيه بنبرة أسى، طالباً عدم نشر اسمه خوفاً من المساءلة: «الأوتوبيس ده عمره الافتراضى انتهى من 20 سنة وكل ما يعوزوا يطوروه يدهنوه من بره وخلاص، وبقالنا كتير بنقول وبنادى بس مفيش حد بيسمع والمسئولين عاملين ودن من طين وودن من تراب». وتبدأ الرحلة بصوت الموتور الصاخب، وفى الطريق تقابلنا القمامة الملقاة فى النيل، ويلفت انتباهنا عدم وجود وسائل أمان، إلا أن اضطرار البعض للتنزه بمبالغ بسيطة أو استخدامه كوسيلة مواصلات يدفعهم للتغاضى عن تلك الوسائل. ويقول سيد عبدالرحيم (20 عاماً) أحد الركاب، إنها المرة الثانية التى يستقل فيها الأوتوبيس النهرى للذهاب إلى حديقة الحيوان وإن أكثر ما يزعجه هو صوت الموتور الذى يفسد عليه رحلته. ويلتقط خيط الحديث منه صديقه صاحب العشرين ربيعاً، يقول «على» إن المركب قديم جداً ومن الممكن أن يغرق، ولكنه يجازف ويركبه على الرغم من مخاوفه، نظراً لرخص ثمنه وكونه يقضى الغرض، واصفاً المركب بقطعة حديد تسير فى المياه. وتقول سناء محمد، 35 سنة، إنه باستثناء القمامة الملقاة فى النيل وصوت الموتور المزعج فالمنظر مبدع ويدعو الكثيرين لركوب ذلك الأوتوبيس. يقترب المركب من الشاطئ ويصعد عم محمد ممسكاً بأحد الحبال على مقدمة المركب، وحينما يصل إلى المحطة يقوم بربط المركب بالمرساة وينزل الركاب واحداً تلو الآخر إلى المحطة التى لا تختلف كثيراً عن سابقتها. يقول ناظر محطة الجامعة الذى رفض نشر اسمه، إن الأوتوبيسات النهرية هى صناعة شركة النصر فى الستينات، وإنها لم تخضع للتطوير، وإذا ما تعطل مركب فإنه يتم سحبه إلى محطة الساحل بروض الفرج لإصلاحه ولا يتم إرجاعه إلا بعد فترة كبيرة، ويضيف أن العاملين فى المحطة ليس بيدهم شىء فى التطوير وأن كل ما يفعلونه هو تنظيم حركة سير المراكب، مطالباً وزارة النقل بالاعتناء بالأوتوبيسات النهرية حتى لا تحدث كارثة، وأنه يجب الاعتناء بالأوتوبيسات النهرية أولاً قبل إنشاء التاكسى النهرى، حيث يجب أن تعطى الأولوية لها لأنها وسيلة نقل وتنزه للفقراء. وفى هذا يقول د. سعد الدين العشماوى، أستاذ إدارة اقتصاديات النقل، إن الأوتوبيس النهرى فى شكله الحالى لا يصلح لنقل الركاب داخل القاهرة، واستحداث التاكسى النهرى هو إهدار لموارد الدولة، لأن التاكسى النهرى لن يختلف عن الأوتوبيس النهرى كثيراً، فهو لا يصلح كوسيلة نقل فعالة يمكن أن تسهم فى حل مشكلة المرور داخل القاهرة. فالأوتوبيس والتاكسى النهرى لا يصلحان كوسيلة نقل، ولكن يصلحان كوسيلة ترفيه، لافتاً إلى ضرورة عمل خطط بديلة لحل أزمة المرور. وفى المقابل يقول المهندس عدلى الكاشف رئيس الجمعية المصرية لسلامة النقل، إن الأوتوبيس النهرى يعتبر إحدى الآليات التى يجب أن تستخدم للتخفيف من المرور داخل القاهرة، وأن استحداث التاكسى النهرى سيساعد على تفعيل هذه الآلية، ولكن يجب أن يدار بشكل جيد حتى لا يكون مصيره مثل الأوتوبيس النهرى الذى أخفق فى أن يسهم فى حل مشكلة المرور بسبب سوء إدارته، فلا يتعدى عدد ركابه ثمانية آلاف راكب يومياً فى مقابل 3 ملايين راكب للمترو، ويقول إن السبيل لتطوير الأوتوبيس النهرى هو تغيير الفكر الإدارى الذى يدير المنظومة، بحيث تستجيب لمتطلبات التطوير من النظافة والصيانة والانضباط وأن يعمل هذا الفكر على جعل الأوتوبيس النهرى وسيلة نقل آدمية تصلح لنقل الركاب بدلاً من الأوتوبيسات المتهالكة الموجودة بالخدمة حالاً، وأن تبتكر حلولاً غير تقليدية لجذب الركاب كتعيين مرشد سياحى على كل أوتوبيس يرشد الركاب إلى المعالم التى يمرون عليها على ضفاف النيل.