ليس من شك فى أن الأداء البطولى للقوات المسلحة فى حرب أكتوبر، وما برز للعالم كله من فاعلية الجندى المصرى وجسارته، بالإضافة إلى التخطيط العلمى الدقيق الذى سبق الحرب، قد أدى إلى تغيير ملموس فى تقييم الشخصية المصرية لدى عديد من الكتّاب والمفكرين. وقد عاصرنا جميعاً الفترة التى أعقبت هزيمة يونيو 1967، حين تبارى المفكرون العرب الذين ينتمون إلى كل الاتجاهات السياسية فى تفسير الهزيمة. وتعددت التفسيرات، من التفسير الدينى الفج الذى زعم أن الابتعاد عن الدين كان هو العامل الحاسم فى الهزيمة، إلى التفسير التكنولوجى الساذج الذى روج لفكرة الفجوة التكنولوجية بيننا وبين إسرائيل، مروراً بالتفسير السياسى الرجعى الذى وجد الفرصة سانحة للهجوم على الاشتراكية، فقرر بمنتهى اليقين أن الاشتراكية هى المسئولة! غير أن أخطر التفسيرات قاطبة، هى تلك التى تتعلق بتشريح الشخصية المصرية بوجه خاص والشخصية العربية بوجه عام. لقد ركزت هذه التفسيرات -التى وجدت سنداً قوياً لها فى واقعة الهزيمة الساحقة- على السلبيات المتعددة التى تزخر بها الشخصية المصرية. فقرأنا كثيراً عن السلبيات، والفردية، والمظهرية، والفهلوية، والافتقار إلى المبادأة، والعجز عن العمل الجماعى، ومن ناحية أخرى أغرقتنا التحليلات الاجتماعية للمجتمع العربى، التى صورته لنا مجتمعاً تقليدياً، يقوم على اعتبارات القرابة أكثر من اعتبارات الإنجاز والكفاءة، مجتمعاً يتكون من مجموعة من الأميين الذين يعجزون بحكم وضعهم عن استيعاب العلم والتكنولوجيا، وبعبارة موجزة قدمت لنا صورة بالغة الكآبة للشخصية المصرية، وفى نفس الوقت رسمت لنا -صراحة وضمناً- صورة مسرفة فى المبالغة عن الشخصية الإسرائيلية، التكنولوجية المتقدمة. وفجأة، انطلقت شرارة المعركة، واكتسح العبور المصرى المجيد الحصون والاستحكامات التى أقامتها التكنولوجيا الإسرائيلية، وفر أو أسر أو قتل عشرات الإسرائيليين المتقدمين العصريين! وإذا بنا نجد موقفاً غريباً فى عدد من الكتّاب والمفكرين المصريين والعرب، فقد تحولوا بدون سابقة إنذار إلى التغنى بإيجابية الشخصية المصرية وتراثها وبفاعلية المصرى وجسارته، وقدرته على تخطى الصعاب، واقتحام المخاطر، وأن ذلك كله ليس أمراً طارئاً عليه، بل هو سمة تميزه منذ العصور السحيقة الموغلة فى القدم. ترى ما هو تفسير هذا الموقف؟ إن ذلك يُرد فى رأينا -بعيداً عن الاهتمام بالعوامل الشخصية والنزاعات الذاتية- إلى سيادة نظرة تجزيئية مسطحة للشخصية المصرية. لقد أخطأنا فى الموقفين: موقف الهزيمة وموقف النصر. فلا المغالاة فى تجريح الذات والتركيز على سلبيات الشخصية المصرية كان يستند إلى أساس علمى، ولا القناعة بتمجيد السمات الإيجابية كفيل بتصحيح الخطأ، أو التخلى عن الأحكام الذاتية غير الموضوعية. إن كل هذا حصيلة منهج تجزيئى معيب فى النظر للشخصية القومية بعيداً عن السياق التاريخى الذى تمارس فيه فعلها، تؤثر فيه وتتأثر به. إن الشخصية المصرية ليست قالباً جامداً تتضمن عدداً من السمات الحضارية والنفسية «الغريزية» التى لا تتغير ولا تنال منها رياح الزمن. بل إنها -فى التحليل العلمى الدقيق- تعد انعكاساً لنمط المجتمع بما يتضمنه من علاقات اقتصادية متميزة فى حقبة تاريخية محددة، مضافاً إليها بعد أساسى وهام هو البعد الحضارى الذى يمتد فى الزمان بصورة خفية، قد تستعصى أحياناً على التحليل. وخلاصة ما نريد أن نركز عليه، أن الشخصية المصرية تضم عدداً من السمات السلبية الناجمة عن تخلف أنماط الإنتاج، وعن بقايا السيطرة الاستعمارية القديمة وما طبعته فى نفوس البشر، وعن آثار العلاقات الاستغلالية للصفوة المستغلة السياسية والاقتصادية، التى حاولت أن تقضى على كل ما هو نبيل فى الشخصية المصرية، لضمان الخنوع السياسى، والامتثال الاقتصادى لهذه الطبقات. غير أن الشخصية المصرية فى نفس الوقت تزخر بعديد من الإيجابيات التى هى ميراث الأجيال المناضلة المتعاقبة، التى كافحت بشرف وسخاء ضد المحتل الأجنبى، والتى رفضت -بالرغم من الصعوبات الشاقة التى مارست فيها نضالها- أن تفرط فى شبر واحد من التراب الوطنى. هذه الأجيال التى مارست النضال الوطنى ضد المستغلين بكافة فئاتهم، حين هبت جموع الفلاحين والعمال والمثقفين أكثر من مرة لتحقيق العدالة الاجتماعية للجماهير. إن الشخصية المصرية جديرة منا بنظرة علمية متوازنة، لا تسقط فى هوة اليأس القاتل بالتركيز على السلبيات، ولا تغامر بالمبالغة الفجة حول الإيجابيات. إننا شعب يحاول أن يعيد صياغة شخصيتنا القومية وسط معركة دولية وحضارية ضارية، سعياً وراء التقدم الإنسانى المستنير، والعصرية الموجهة التى تشبع احتياجات الإنسان. ما سبق خلاصة ما كتبناه عقب نصر أكتوبر 1973، الذى أكد تنبؤاتنا قبل الحرب عن قدرة الشخصية المصرية على المبادأة وجسارة الشعب المصرى فى مواجهة المستحيل وهو ما أثبتته ثورة 25 يناير المجيدة.