بعد استشهاد الخليفة الرابع على بن أبى طالب على يد «عبدالرحمن بن ملجم» بايع أنصار الشهيد ولده الأكبر: «الحسن». كانت الاستعدادات على قدم وساق للدخول فى مواجهة جديدة مع «معاوية»، بعد النتائج التى ترتبت على واقعة التحكيم الشهيرة، لكن الخليفة الجديد فاجأ الجميع بعقد صلح مع «معاوية» والتنازل له عن الخلافة، وخرج إليهم وخطب فيهم -كما يحكى ابن قتيبة صاحب كتاب الإمامة والسياسة- وقال: «أيها الناس، إن الله هدى أولكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وكان لى فى رقابكم بيعة تحاربون من حاربت وتسالمون من سالمت، وقد سالمت معاوية وبايعته فبايعوه، وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين، وأشار إلى معاوية». أصيب المحتشدون وراء «الحسن» بصدمة هائلة، وشرعوا فى النيل منه والتشكيك فى نواياه، واتهامه بارتخاء العزم وضعف الإرادة، إلى حدّ أنهم كانوا يدخلون عليه فيلقون عليه السلام قائلين: «السلام عليك يا مُذِلّ المسلمين»! كان الحسن بن على رضى الله عنهما يتمتع بحكمة فريدة، تمكّن بها من مواجهة دهاء «معاوية»، لكن معاصريه لم يستوعبوا تفكيره، ويتفهموا أبعاده، فانقلبوا عليه، ونالوا منه. كان «الحسن» ينظر إلى المسألة من زاويتين: أولاهما الزاوية الإيمانية التى تذهب إلى أن كل شىء فى الدنيا يسير بقدر الله، وأن معاندة الأقدار سمتُ الجهلاء الذى لا يتعمقون فى فهم الحياة. وقد قضت مشيئة الله أن يصل الأمر إلى معاوية، رغم أنه لم يكن الأجدر به من وجهة نظر الكثيرين، لحكمة لا يعلمها إلا الله، وثانيتهما الزاوية العملية المستندة إلى قراءة المشهد، فقد اطلع الحسن على أنصاره فوجدهم ما بين موتور وجريح، ومخذول ومتخاذل، ولم ينسَ أيضاً أن أنصار معاوية مسلمون هم الآخرون، وأن الحرب التى وقعت بين الفريقين بعد استشهاد عثمان كانت بين الكتلتين الأكبر من المسلمين، وأن استمرارها سوف يؤدى إلى فناء أمة محمد صلى الله عليه وسلم. انطلاقاً من الوعى العميق بهذين الأمرين اتخذ «الحسن» القرار الصعب ليُصلح بين فئتين عظيمتين من المسلمين، ولم يلتفت إلى تجريح البعض له. ويشير صاحب «الإمامة والسياسة» إلى أن «سليمان بن صرد» دخل على الحسن فقال له: السلام عليك يا مذل المؤمنين، وسأله كيف تنازل عن الخلافة ووراءه مائة ألف من العراق غير من يؤيده من أهل البصرة والحجاز، فرد عليه الحسن رداً طويلاً، من أبرز ما جاء فيه: «أُشهد الله وإياكم أنى لم أُرد بما رأيتم إلا حقن دمائكم، وإصلاح ذات بينكم، فاتقوا الله وارضوا بقضاء الله وسلموا الأمر لله، والزموا بيوتكم، وكفوا أيديكم، حتى يستريح بر، أو يُستراح من فاجر، مع أن أبى كان يحدثنى أن معاوية سيلى الأمر، فوالله لو سرنا إليه بالجبال والشجر ما شككت أنه سيظهر، إن الله لا معقب لحكمه، فوالله لأن تذلوا وتعافوا أحب إلىّ من أن تعزوا وتقتلوا». كانت إجابة «الحسن» قاسية بقدر قسوة كلام «سليمان»، لكنها كانت تعكس الفارق النوعى بين عقل «الحكيم» ووجدان «المتحمس»!