الوطنية المصرية هى كلمة السر المقدسة، والنسيج الضام الذى لا يبلى ولا يهترئ، وتميمة الخلود التى أبقت على مصر وطناً واحداً منذ فجر التاريخ، والنداء الساحر الوحيد الذى يتجاوب له ومعه المصريون على اختلاف مشاربهم، نسيج لا تنفك عراه حتى تلتئم، ولا تتفرق خيوطه حتى تتوحد. فى هذا النسيج كانت الوطنية المصرية هى الخيط القوى المشترك مهما تعددت ألوانه الدينية والمذهبية والسياسية. ومصر وحدها -قبل غيرها من الأمم- هى التى صاغت قانون «الوحدة - التعدد» فى تناغم عبقرى رائع، فحفظت بالوحدة تماسكها واستمرارها، وأغنت بالتعددية شخصيتها. لم تغير أحداث التاريخ ولا صروف الدهر -وهى كثيرة- معالم الشخصية المصرية أو هويتها، ولم ينتفض المصريون لخطر يتهددهم قدر انتفاضهم دفاعاً عن هويتهم. ألم تكن الوطنية المصرية هى كلمة السر التى جمعت المصريين حول هويتهم عندما حاصرها الخطر فى 30 يونيو 2013؟! وقد فطن الغزاة من كل فج إلى عبقرية قانون «الوحدة - التعدد» الذى خلع على الوطنية المصرية صيغة ديمقراطية، وصانها من عوامل التمزق القومى والذوبان الذى يمحو هويتها. ولنا أن نعترف بأن الوطنية المصرية تمتحن اليوم من جديد، وأن تماسكنا القومى يواجه اختباراً. ويقيناً فإن مصر تملك أن تنجح، وقادرة على أن تتجاوز اختبارها، لكننا ينبغى أن نبحث عن الوسائل التى تحول دون استمرارها فى «امتحان الدم» حتى لو كنا مطمئنين إلى نجاحها فيه، تلك الثقافة التى شبت عن الطوق فى معتركات نضالية فاصلة، كان الجيش المصرى فيها قاسماً وطنياً مشتركاً، منذ أن جهر عرابى وهو فوق صهوة جواده، فى وجه حاكم غريب قرر أن يخون ويستسلم «لقد خلقنا الله أحراراً ولم يخلقنا عبيداً وتراثاً ولن نستعبد بعد اليوم!» وهى الثقافة التى أحيتها ثورة الشعب الوطنية الأولى فى عام 1919، وأيقظتها معارك الخمسينات والستينات ضد الاستعمار والصهيونية، وتوهج بريقها فى حرب أكتوبر المجيدة فى 1973، وحتى ردت ثورة 30 يونيو الاعتبار إلى فكرة الاستقلال الوطنى، واستصرخت ضمائرنا للذود عن الهوية. لكن أنحتاج -فى كل مرة- إلى مُحتل يذكرنا بقداسة الوطن، وغازٍ يستفز مشاعرنا القومية، وطبول حرب نرص على دقاتها صفوفنا المتنافرة المبعثرة؟ كلا فضرورة الوحدة الوطنية قائمة فى كل حين، وهاتف الوطن لا ينى يذكرنا بها. وليس بالضرورة دائماً أن تُصقل شفرة الوطنية فوق صخرة الحرب، وفى مواجهة الغزاة الأجانب، لأن «وكلاء» هؤلاء المحليين أشد خطراً من «موكليهم»، ومقارعة «الوكيل المحلى» وهو مختبئ فى عباءة الدين أهون منها الحرب ضد عدو غريب! كيف نُعلى قيمة الفكرة الوطنية؟ وفى مواجهة من؟ يخطئ من يظن أن الذين يقبضون اليوم على جمرة الوطنية إنما يصطنعون تناقضاً نجزم بأنه غير قائم بين الوطنية والإسلام، بحيث يكون إثبات أحدهما نفياً للآخر، أو أن نفى الأولى إثبات للثانى. إن إعلاء قيمة الفكرة الوطنية لا يعنى أن تكون الوطنية المصرية بديلاً عن روابطها الأجمع والأوسع. فقد «تكاملت» -دوماً على أرض مصر- روابط الوطنية والعروبة والإسلام ولم «تتنافس». وكان أعداء مصر -منذ فجر التاريخ- هم أعداء العرب والإسلام. وكان أعداء هؤلاء هم أعداء المصريين، منذ الرومان الذين حاربهم المصريون جنباً إلى جنب مع العرب، إلى الصليبيين -أو الفرنجة كما أسماهم العرب- الذين قاموا بتكفير الأقباط المصريين، وأفتوا بحرمانهم من الحج إلى «بيت المقدس»، وحتى معاركنا الحديثة المشتركة. لقد استظلت الفكرة الوطنية فى مصر بسماحة الإسلام وتفاعلت معه، وقدمت «إسلاماً مصرياً معتدلاً»، لا يعرف الغلو أو التطرف أو الجنوح، كان الأزهر الشريف عنوانه ورسوله قبل أن تدوس سنابك خيل الإخوان حرماته، وتخترق قلاعه وحصونه. وفى إطار الرابطة الوطنية الأوسع أقر الإسلام لغير المسلمين بحقوقهم الفردية والجماعية. وتلقحت الوطنية أيضاً بالعروبة، لغةً وثقافةً ومصيراً، فصارت مصر كما أبدع جمال حمدان بحق «خير تصغير للأمة العربية وخير تكبير لها». ولم يكن بالأمر الذى يخلو من مغزى أن تسهم الكنيسة القبطية -قبل أحد عشر قرناً- فى تعريب مصر بقرارها التاريخى بتعريب صلواتها، ونقل التراث القبطى إلى العربية على يد بطاركة عظام مثل ساويرس بن المقفع فى القرن العاشر الميلادى، تماماً كما وظفت الكنيسة المصرية كل مكانتها الروحية وثقلها التاريخى، والمؤمنين من أتباعها فى معارك العروبة المعاصرة! إذن فى وجه من نُعلى قيمة الفكرة الوطنية وننفخ فى جذوتها ونحتكم إلى فقهها؟ إنما فى وجه الإرهاب نعلى هذه القيمة، ونحتكم إلى هذا الفقه. فالإرهاب نفى للآخر وشق للصف واستبعاد وحرب على المخالفين. والوطنية اعتراف بالآخر واندماج به ورأب للصدع. وفى الحرب ضد الإرهاب فإن الأهم هو المعركة ضد ثقافته. وقد آن الأوان لأن نقتلع حشائش هذه الثقافة السامة من تربة الوطن، وأن نستأصل شأفتها من حياتنا الفكرية والسياسية والاجتماعية. إننا بحاجة إلى جبهة واسعة تتحرك عليها منظماتنا التربوية والتعليمية والثقافية والإعلامية فى حرب «تطهير ثقافية» تنزع فى طريقها كل مظهر لثقافة الإرهاب من برامج تعليمنا، خصوصاً التعليم الدينى المسكون بقنابل موقوتة، وأن نحتكم فقط إلى «فقه الوطنية» لا إلى «فقه الإرهاب» الذى قام على نفى الآخر، وتقطيع أواصر التاريخ وفصل حلقاته، وتعامل مع رموزه وأبطاله وأحداثه بمنهج انتقائى استبعادى يكرس الطائفية ولا ينفيها، ويؤسس لدويلات دينية مزعومة. إن فقه الوطنية أصيل وفقه الإرهاب دخيل. وبينما كان أطراف المعادلة الوطنية يلوذون إلى فقه الوطنية كلما احتزب الأمر وتلبدت السماء بالغيوم، لم تكن القوى والجماعات التى تذرعت بفقه الإرهاب فوق مستوى الشبهات. فقد وظفته بالنية المبيتة لشق الصف الوطنى، واستخدمته بالقراءة المبتورة للنصوص المقدسة والتفسير المتعسف لها لخدمة قوى إقليمية ودولية لا تخفى علينا طموحاتها ولا تغيب عنا دوافعها.