لم يكن الأمر غريباً، واشنطن تناصب د. فايزة أبوالنجا العداء منذ أن تصدت لمخطط الفوضى عبر التمويل الأجنبى، الملفات مملوءة بأشرف المعارك دفاعاً عن الأمن القومى المصرى، وخلال السنوات الأخيرة كانت وزيرة التعاون الدولى السابقة هى عنوان هذه المعارك، بذلت واشنطن جهودها لإثنائها عن دورها، إلا أن هذه السيدة الجسورة كانت تقول دوماً: «إن هذه المعارك لن تزيدنا إلا صلابة». وفى أعقاب الإعلان عن اختيار رئيس الجمهورية الدكتورة فايزة أبوالنجا مستشارة للأمن القومى، قامت الدنيا ولم تقعد، أبدت واشنطن قلقها وغضبها، أدركت مجدداً أن «السيسى» يريد أن يبعث برسالة جديدة إلى كل من يعنيهم الأمر تقول: «إن الأمن القومى المصرى له الأولوية على ما عداه». وفى نفس اليوم شنّت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية هجوماً شرساً على الحكومة المصرية، واعتبرت أن اختيار د. فايزة أبوالنجا فى هذا المنصب الرفيع يعنى إعلان العداء لواشنطن. وقالت الصحيفة: «إن عودة (أبوالنجا) إلى الحكومة مجدداً تعنى تجاهل (السيسى) المستمر تحالفه مع واشنطن، فضلاً عن القلق حيال وضع منظمات المجتمع المدنى». وقال مايكل حنا الباحث بمؤسسة القرن الأمريكية إن «تعيين (أبوالنجا) يمثل صفعة واضحة فى وجه الولاياتالمتحدة». وقال: «إن هذا يعد تأكيداً على ما نعرفه بالفعل عن هذه الحكومة بشأن نهج العداء للمجتمع المدنى». لم تتوقف حملة ال«نيويورك تايمز» على قرار اختيار الدكتورة فايزة أبوالنجا، بل اعتبرت أن ذلك يعتبر عنواناً لموقف الإدارة المصرية يستوجب المواجهة، وانتقدت عقد مؤتمر لرجالات الاستثمار الأمريكيين فى مصر، وطالبت بالتوقف عن ذلك. إن حقيقة الأمر أن ما نشرته ال«نيويورك تايمز» كان بمثابة حملة موجّهة، ورسالة إلى من يعنيهم الأمر، لقد أبدت واشنطن قلقها الشديد من جراء هذا القرار، الذى يمثل بالنسبة لها عودة إلى أجواء الاحتقان فى ملف العلاقة المصرية - الأمريكية المتعلق بمنظمات المجتمع المدنى بعد أحداث ثورة 25 يناير. لقد مثّلت د. فايزة أبوالنجا خلال فترة توليها منصب وزيرة التعاون الدولى عقبة مهمة فى مواجهة محاولات الإدارة الأمريكية اختراق الأمن القومى المصرى عبر تمويل بعض منظمات المجتمع المدنى ذات الأهداف السياسية والحقوقية بملايين الدولارات، وبعد الثورة قامت واشنطن بتمويل منظمات مصرية وأمريكية تعمل على الأرض المصرية بمبلغ يصل إلى مليار ومائتى مليون جنيه فى الفترة من فبراير إلى نوفمبر 2011، تم صرفها على أعمال الفوضى والمليونيات التى كانت تهدف إلى التحريض ضد الجيش المصرى وجره إلى الصدام مع الشعب، كسبيل لإسقاط الدولة. وأمام هذا الاختراق المكشوف، طلب المجلس العسكرى من حكومة عصام شرف تشكيل لجنة تقصى حقائق لبحث ملف التمويل الأجنبى لهذه المنظمات، ووضع حد للتدخل السافر فى الشئون الداخلية المصرية. يومها أثار القرار انزعاج الإدارة الأمريكية، مارست كل ضغوطها إلا أنها فشلت فى كسر إرادة الدولة المصرية، وصدر قرار بتشكيل اللجنة برئاسة وزير العدل، وكانت د. فايزة أبوالنجا هى العنصر الأهم فى اللجنة، لأنها تمتلك كل الملفات المتعلقة بالتمويلات الأجنبية لهذه المنظمات، خاصة أنها الوزيرة المسئولة عن هذا الملف. وبعد إعلان نتائج أعمال لجنة تقصى الحقائق وإحالة الأمر إلى قاضى التحقيق، أدلت د. فايزة أبوالنجا بأقوالها وكشفت تفاصيل خطيرة تتعلق بالأموال المقدمة والمخاطر التى تعرّض لها الأمن القومى المصرى ومحاولات إسقاط الدولة المصرية، عند هذا الحد انقطعت صلة «د. أبوالنجا» بالقضية التى أصبحت فى حوزة قاضى التحقيق. وعندما صدر حكم قضائى بإبعاد المتهمين الأجانب فى قضية التمويل الأجنبى ثار الرأى العام وطالب بمحاسبة المسئولين عن ذلك، وجاءت الدكتورة فايزة أبوالنجا وعدد من الوزراء الآخرين إلى مجلس الشعب، وسعى البعض إلى محاولة إحراجها واستخدام قضية إبعاد الأجانب كوسيلة لسحب الثقة من الحكومة، بينما كان الهدف الحقيقى للبعض داخل البرلمان هو محاسبة د. فايزة أبوالنجا على موقفها من السياسة الأمريكية وتمويلها هذه المنظمات وخرقها اتفاق المعونة الموقّع بين مصر والولاياتالمتحدة عام 1978. لقد ألقت «د. أبوالنجا» بياناً مهماً وتاريخياً فى جلسة مجلس الشعب 11 مارس 2012، جاءت الوزيرة فايزة أبوالنجا لترد مع آخرين على تساؤلات النواب حول قضية التمويل الأجنبى، قاطعها الإخوان وبعض من يسمون أنفسهم ليبراليين. كانت الوزيرة رابطة الجأش، قوية كعادتها، تمتلك القدرة على المواجهة، حمّلوها مسئولية كل ما يحدث، ألصقوا الاتهامات الباطلة بها، لكنها صعدت إلى منصة البرلمان لترد على كل ما يثار. قالت د. فايزة أبوالنجا: هذه بالفعل جلسة تاريخية لأنها تتعلق بموضوع حساس، يمس السيادة والأمن القومى المصرى. نظرت إلى نواب المجلس المتربصين وقالت: «هذه القضية أثارت الكثير من الجدل وجزءاً من المزايدات واستهدافى شخصياً، وهو ما زادنى صلابة وقوة بأن ما تم اتخاذه من إجراءات كان فى الاتجاه الصحيح»، وقالت: «إن وزارة التعاون الدولى تتولى إدارة برامج مساعدات التنمية التى تحصل عليها مصر، ومنها برنامج المساعدات الأمريكية، الذى أنشئ عام 1978، بمقتضى اتفاقية جرى توقيعها بعد اتفاقية كامب ديفيد». وقالت «أبوالنجا»: «إنه يتم التصرّف فى الأموال المخصصة لهذا البرنامج باتفاق بين الحكومتين المصرية والأمريكية وبدأ البرنامج بمبلغ 815 مليون دولار خُصصت كمساعدة، وأن الحال استمر كذلك حتى عام 2004». وقالت وزيرة التعاون الدولى: «فى هذا الوقت اتخذ الكونجرس الأمريكى قراراً باستقطاع ما بين 10 و20 مليون دولار تخصص لتمويل برنامج الديمقراطية والحكم الرشيد من الجانب الأمريكى ويُسلم مباشرة إلى منظمات المجتمع المدنى المصرى دون الرجوع إلى الحكومة المصرية». فى هذا الوقت اعترضت مصر على خرق واشنطن للاتفاقية الموقعة بين البلدين فى عام 1978، حاولت التوصل إلى حل مع الولاياتالمتحدة يقضى بالتزامها بما تم الاتفاق عليه، إلا أن واشنطن صمّت الآذان عن المطالب المصرية، وهو أمر دفع الحكومة المصرية إلى التصعيد، ثم الاتفاق فى هذا الوقت على أن تقوم واشنطن بإبلاغ مصر بالمبالغ التى ستحوّلها الإدارة الأمريكية إلى منظمات المجتمع المدنى، وأن يقتصر التمويل على الجمعيات الأهلية المسجلة لدى وزارة الشئون الاجتماعية، فى مقابل موافقة الحكومة المصرية على استقطاع المبلغ المحدّد من المعونة، لصالح هذه المنظمات، والذى لم يكن يزيد فى هذا الوقت على من 10 إلى 20 مليون دولار.. وفى عام 2007 اتخذ الرئيس الأمريكى جورج بوش قراراً أحادياً، بتخفيض حجم المعونة الاقتصادية المقدّمة لمصر من 815 مليون دولار إلى 415 مليون دولار، أى مقدار النصف تقريباً، وهو ما أثار دهشة القاهرة، التى أدركت أن واشنطن لديها مخطط واضح ضد مصر، وأن المعونة الأمريكية المحددة يجرى استخدامها وتخفيضها بما يدفع إلى مزيد من الأزمة مع الحكومة المصرية والرئيس الأسبق حسنى مبارك. لقد قالت فايزة أبوالنجا إنه فى هذا الوقت اتخذ الكونجرس الأمريكى قراراً بتخصيص من 10 إلى 20 مليون دولار تخصص كتمويل لبرنامج الديمقراطية والحكم الرشيد من الجانب الأمريكى لمنظمات المجتمع المدنى، دون الرجوع إلى الحكومة المصرية التى اعترضت رسمياً على ذلك. وقالت: «إنه حتى عام 2010، حاولت مصر التوصل إلى حل مع أمريكا لصالح العلاقة، ثم جرى الاتفاق بعد ذلك على أن توافق الحكومة المصرية على استقطاع المبلغ الذى وصل إلى نحو 50 مليون دولار فى هذا الوقت، ولكن شريطة أن تبلغ أمريكا مصر عن كل مبالغ التمويل التى تقدّمها إلى الجمعيات الأهلية المصرية، وأن يقتصر ذلك على الجمعيات المسجلة لدى وزارة الشئون الاجتماعية». وفى عام 2007، اتخذ الرئيس جورج بوش قراراً بتخفيض حجم المعونة الاقتصادية المقدمة لمصر من 815 مليون دولار إلى 415 مليون دولار، ثم وصلت بعد ذلك إلى 200 مليون دولار، مما دفع مصر فى عام 2007 إلى أن تتقدم بطلب للتخارج من برنامج المساعدات الأمريكية، ورفضته أمريكا، إلا أن الحكومة المصرية توقفت عن استخدام هذا البرنامج لمدة عامين حتى وصول «أوباما» إلى الحكم. وفى عام 2009 تعهد الرئيس أوباما ووزيرة الخارجية السابقة هيلارى كلينتون بالالتزام بتمويل المنظمات المسجلة فقط وتعهدا بذلك، ومع ذلك ظلت واشنطن تمول المنظمات غير المسجلة، مما أثار حفيظة مصر فى هذا الوقت. وفى 20 فبراير 2011، أى بعد ثورة 25 يناير، أعلنت هيلارى كلينتون أن أمريكا سوف تعيد برمجة مبلغ 150 مليون دولار من برنامج المعونة كانت تخصصه للمشروعات الخدمية والصرف الصحى، لتوجهه إلى منظمات المجتمع المدنى فى مجال الديمقراطية والحكم الرشيد. وهنا نشأ الخلاف الشديد بين وزارة التعاون الدولى التى كانت تتولاها الوزيرة أبوالنجا وبين الإدارة الأمريكية، خاصة أنه كانت تلك هى المرة الأولى التى تقوم فيها الإدارة الأمريكية بتمويل منظمات أمريكية تعمل على الأرض المصرية دون ترخيص، مثل المعهد الديمقراطى الأمريكى والمعهد الجمهورى الدولى وبيت الحرية الأمريكية وغيرها. لقد أكدت د. فايزة أبوالنجا فى هذا الوقت أن هذه المنظمات لها تاريخ مثير للقلق وتمارس نشاطاً سياسياً وحزبياً محظوراً على الأرض المصرية، وهو أمر غير مقبول من دول العالم التى لا تسمح بذلك، بما فيها الولاياتالمتحدة نفسها. فى هذا الوقت، قالت الوزيرة أبوالنجا إننا علمنا أن هناك مبلغ 150 مليون دولار قدمت لهذه المنظمات، وأنا المسئولة أقسمت على حماية مصالح الشعب، فعرضت الموضوع على مجلس الوزراء فى يونيو 2011، وجرى تشكيل لجنة تقصى الحقائق منذ هذا الوقت للتحقيق فى ذلك. لقد قالت فايزة أبوالنجا أمام جلسة بمجلس الشعب فى هذا الوقت: إن «هناك من يقلقه أن تنهض مصر وأن تتحول إلى ديمقراطية حقيقية، لكننى أقول لكم إن مصر ستنهض»، واستحضرت فى هذا البيان كلمات الزعيم سعد زغلول التى خاطب بها الرئيس الفرنسى فى 12 مايو 1919، عندما قال «إن مصر بلد من سلالة كريمة، نشيطة المزاج، إذا تولد فيها الأمل أثار غضبها على الذين يناوئونها فى استقلالها، إن مصر ترفض أن تكون سلعة فى يد الأعداء». كان هذا هو مضمون بيانها التاريخى أمام مجلس الشعب، ورغم محاولات إثارة الأزمات حول الوزيرة من جماعة الإخوان وبعض من يناوئون مواقفها، فإن الوزيرة استطاعت أن تكشف الحقيقة كاملة، مما أفشل مخطط الإخوان وبعض المحسوبين على التيار الليبرالى. لقد سعت واشنطن فى هذا الوقت إلى محاولة إقالة الوزيرة فايزة أبوالنجا، إلا أن المشير طنطاوى والدكتور كمال الجنزورى رئيس الحكومة، رفضا ذلك بكل قوة، بل كان المشير يقول عنها «إنها امرأة بألف رجل». لقد رفضت فايزة أبوالنجا محاولات الرئيس المعزول مرسى إبقاءها فى الوزارة، فقد أدركت الخديعة، ورفضت العمل مع جماعة الإخوان أياً كان المبرر.. وفى الفترة الماضية، لم يغب المشهد المصرى عن ذهنها، كانت مهمومة، وكان لها دورها، تألمت كثيراً فى فترة حكم «مرسى»، لكنها لم تفقد الأمل فى سقوط حكم الإخوان وشروق الشمس من جديد.. إن الحملة على «د. أبوالنجا» تستهدف «السيسى» بالأساس، وتستهدف الدور المصرى الجديد، ومع ذلك فقد سعد المصريون كثيراً بقرار الرئيس، سواء بتعيين فايزة أبوالنجا مستشاراً للأمن القومى، أو بالرجل الوطنى أحمد جمال الدين مستشاراً للشئون الأمنية ومكافحة الإرهاب.. الحملة الأمريكية على د. فايزة أبوالنجا تثبت مجدداً صحة مواقفها، وتؤكد أن الرئيس السيسى اختار سيدة تعرف معنى الأمن القومى وتحرص عليه.. أما الذين هاجموها على الساحة المصرية، فعليهم أن يخجلوا من أنفسهم وأن يقولوا لنا كم من الملايين تقاضت منظماتهم المشبوهة ثمناً للخيانة والعمالة؟