عندما أذيع البيان الأول لحرب أكتوبر سرت فى جسدى رجفة خفيفة لعل مردها كان قلقاً مشروعاً على مستقبل وطن عزيز وأمة صنعت التاريخ. كانت هزيمة يونيو ما تزال ماثلة فى الذاكرة الوطنية فعمرها لم يكن تجاوز ستة أعوام إلا بقليل. صحيح أننا قد استعدنا الثقة فى أنفسنا عبر معارك إعادة بناء القوات المسلحة والتصدى لغطرسة العدو وحرب الاستنزاف لكن العبور العظيم كان الاختبار الشامل الذى لا مناص من النجاح فيه إذا أريد لهذا الوطن أن يحيا بكرامة، وعندما استمعت إلى البيان الذى نقل إلى الشعب المصرى نبأ نجاح قواته فى العبور بدأ قلقى يتبدد لكنه فارقنى تماماً حين قرأت الكلمة التى كتبها ابن مصر المبدع توفيق الحكيم فى الصفحة الأولى من «أهرام 7 أكتوبر». قال الحكيم: «عبرنا الهزيمة بعبورنا إلى سيناء، ومهما تكن نتيجة المعارك فإن الأهم الوثبة. فيها المعنى أن مصر هى دائماً مصر. تحسبها الدنيا قد نامت ولكن روحها لا تنام، وإذا هجعت قليلاً فإن لها هبّة ولها زمجرة، ثم قياماً.. فلا ينخدع أحد فى هدوئها وسكونها». تأملت عبارة «ومهما تكن نتيجة المعارك» وأدركت أن الشعب المصرى كله بدءاً من مواطن عادى مثلى وانتهاءً بقامة كقامة توفيق الحكيم تختلط لديه مشاعر القلق والفخر والعزة. صنع الشعب المصرى العظيم هذا الحدث، ووضع قواته المسلحة فى موقع المسئولية عن كتابة تاريخ جديد لمصر بعد أن هزم المحاولات الخبيثة لأعدائه فى الداخل والخارج من أجل تحطيم ثقته فى أبناء جيشه وتحميلهم المسئولية وحدهم عما جرى، وكان للقائد الذى أعاده الشعب إلى المسئولية بخروجه العظيم فى كل أنحاء مصر، مطالباً إياه بالبقاء فى موقعه رغم ملابسات الهزيمة، دور حاسم فى اجتثاث هذه المحاولات من جذورها عندما نبه فى هدوء وحسم فى خطابه فى يوليو 1967 بمناسبة الاحتفال بعيد الثورة إلى أن النكات المسيئة للقوات المسلحة تمس أناساً هم إخوتنا وأبناؤنا، وعادت القوات المسلحة كما كانت وستبقى دائماً إلى موقع القلب لدى الشعب المصرى الذى سرعان ما بدأ يشهد فى كل يوم يمر دليلاً جديداً على جدية أبنائها وإخلاصهم وقدرتهم على استعادة الكرامة، وكان إغراق «إيلات» وهجمات الطيران المصرى المبكرة على مواقع العدو فى سيناء وعمليات الضفادع البشرية الخارقة فى ميناء إيلات وسيمفونية حرب الاستنزاف دلائل واثقة على قرب تحقيق إنجاز عظيم، وتحمّل الشعب المصرى راضياً نصيبه من التضحيات، سواء فى مدن القناة التى هُجّر أهلها بعيداً عن خط النار، أو فى غارات العدو على الأهداف المدنية كما فى مصنع أبوزعبل ومدرسة «بحر البقر» أو فى ملحمة بناء حائط صواريخ الدفاع الجوى التى حُسمت بالنجاح فى أغسطس 1970 والتى سقط فيها مئات من شهداء القوات المسلحة والمهندسين والعمال المدنيين، وغير ذلك الكثير. كانت حرب أكتوبر دليلاً على أن هذا الشعب قادر على صنع المعجزات، ففى ست سنوات فقط استطاع هذا الشعب وفى الطليعة منه قواته المسلحة أن يعيد بناء قدرته العسكرية على أعلى مستوى وأن يثبت قدرته الفائقة على التخطيط السليم والتدريب الشاق والتنفيذ المبدع واستيعاب التكنولوجيا الحديثة، وربما يكون أقرب الأمثلة على ما فعله هذا الشعب وما فعلته قواته المسلحة هو ألمانيا التى استغرق الأمر فيها عشرين سنة كى تعيد بناء قدرتها العسكرية كأقوى ما تكون بعد هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى، وبالإضافة إلى ما سبق كانت برهاناً على حقيقة الأمن القومى العربى، فقد خاضت مصر وسوريا الحرب بخطة مشتركة وساعة صفر واحدة، وشاركت فى الحرب على الجبهة المصرية قوات من المغرب والجزائر والسودان والكويت وأسراب من الطيران العراقى والليبى فضلاً عن الدور المحورى الذى لعبته الدول العربية النفطية بقرارها حظر تصدير النفط إلى الدول الداعمة لإسرائيل وعلى رأسها الولاياتالمتحدة مع تخفيض إنتاجه شهرياً بنسبة 5% حتى لا يتراكم فائض فى السوق العالمية للنفط ما تستطيع به الدول التى فرضت عليها العقوبات العربية أن تعوض النقص فى إمداداتها النفطية من هذه السوق. لكن روح أكتوبر العظيمة بدأت تتبدد لاحقاً من خلال استراتيجيات جديدة خاطئة انتقلت مصر بموجبها من الاستقلال الوطنى إلى ارتهان إرادتها لدى الولاياتالمتحدة ومن التنمية المستقلة إلى التنمية التابعة، ومن سياسات العدل الاجتماعى إلى المنطق القائل بأن جيلاً ينبغى أن يدفع الثمن من أجل رخاء تأخرت بوادره، ومن دور قائد عربياً وأفريقياً ومؤثر عالمياً إلى عزلة وغياب للفاعلية، وكان الأمل كبيراً فى أن تؤدى ثورة الشعب فى يناير 2011 إلى الخلاص من هذا كله، لكن تشتت الثوار سهّل سرقة الثورة، ومرت مصر بعام كئيب أنذر بخطر داهم، لكن الشعب انتفض مرة أخرى فى 30 يونيو 2013 دفاعاً عن ثورته، وها نحن نبدأ الآن مرحلة جديدة أزعم أن مشروع قناة السويس الجديدة يمثل فيها عودة الروح لهذا الشعب الذى فهم رسالة قائده سواء من منظور إرادة الإنجاز أو استعادة الوطنية عندما أصر على أن يتم الإنجاز فى عام من خلال تمويل مصرى فقط فحدثت أكبر عملية تمويل شعبى لمشروع وطنى فى مدة قياسية، لكننا يجب أن نعترف بأن هذه الروح لم تتغلغل بعد فى كل مناحى حياتنا.. فما العمل؟